Arabs and America: Between Confrontation and Agreement

<--

لا يزال البعض يعتقد أنه يمكن القيام بحملة إعلامية بحيث يمكن إيجاد أصدقاء في الغرب، وفي أميركا بشكل خاص، من أجل الوقوف إلى جانب قضايانا العربية والإسلامية والإنسانية العادلة. وأعتقد أن هذا رهان صعب. وابتداءً يجب أن نشير إلى أن إيجاد تفاعل وتعاطف في أوروبا أسهل منه في الولايات المتحدة الأميركية، لأن الإنسان الأوروبي يتميز بقدر كبير من الثقافة والوعي. والصحف الأوروبية تنشر أخباراً عن العالم وتطوراته بشكل أكبر مما تنشره نظيراتها في الولايات المتحدة إلى حد ما، إلى جانب وجود اختلافات سياسية حقيقية بين الأحزاب التي تقوم بتوعية المواطنين. لكن مهمة خلق التفاعل والتعاطف، حتى داخل الولايات المتحدة، ليست مستحيلة. خذ على سبيل المثال ما حدث في حرب واشنطن على فيتنام، حيث كانت الأغلبية الساحقة من الشعب الأميركي تؤيد في البداية التدخل في فيتنام، تحت ذريعة وقف ما سموه آنذاك بـ “الخطر الشيوعي”! وبالتدريج، ومع وصول بعض جثامين الجنود الأميركيين إلى التراب الأميركي، ومع تزايد الخسائر المادية، بدأت الجماهير الأميركية تتراجع عن موقفها السابق، وتخرج إلى الشوارع، مطالبة الإدارة الأميركية بسحب قواتها من فيتنام، وهو ما اضطرت إليه الولايات المتحدة! ولنلاحظ أن الفيتناميين كانوا يقاتلون ويتفاوضون في الوقت ذاته، وكانت الحركات المعادية للحرب في الولايات المتحدة تقوم بعملية توعية بما يحدث من خلال الإعلام. وقد طورت مصطلح “الحوار المسلح”، الذي ينطلق من تصور أن الشعوب التي تدور في إطار علماني مادي استهلاكي لا تدرك العالم إلا بحواسها الخمس، ولذا فهي شعوب وثنية لا عقلانية لا يمكن إيقاظها من خلال الإعلام وحده، كما يتصور البعض، وإنما من خلال سياسة متكاملة، فنبعث لهم رسائل مسلحة عن طريق المقاومة المسلحة المستمرة، ورسائل شبه مسلحة مثل التلويح بقطع البترول ونقل رؤوس الأموال العربية. وتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، ومنع مرور السفن الحربية من قناة السويس. لكن لابد وأن يواكب هذا رسائل توضح وجهة نظرنا، مضمونها أنه يمكن للشعب الأميركي التعايش معنا، إذ لا يوجد مبرر للصراع أو للمواجهة المسلحة، إذ يمكن توظيف رؤوس الأموال الأميركية في العالم العربي واستيراد السلع من الولايات المتحدة، على أن يتم ذلك في إطار من التبادل العادل، كما يجب أن نؤكد أن المواجهة المسلحة لن تفيد إلا الاحتكارات والشركات الكبرى ومصانع السلاح والدولة الصهيونية.

وكما أسلفت المواجهة مع الولايات المتحدة أصبحت صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، بمعنى أن العرب لو قرروا ضرب مجموعة من السلع الأميركية بعدم شرائها، فإن أصحاب المصانع المنتجة لهذه السلع سيتحولون إلى “لوبي” يعمل لصالحنا. ويمكن استبدال هذه السلع بسلع يتم استيرادها من فرنسا أو ألمانيا أو اليابان أو الصين أو الهند، أو ربما تشجيع بعض رؤوس الأموال العربية على تصنيعها محليا. أما الثروات العربية في المصارف الأميركية، والتي تقدر حسب ما سمعت بـ 700 بليون دولار، فتمثل دعماً قوياً للدولار الأميركي، فيمكن سحب 10% من هذه الأموال في إشارة واضحة للغضب العربي والإسلامي، كما يمكن الاكتفاء بالتلويح بذلك، هذه كلها رسائل للشعب الأميركي أن يعيد النظر في مواقف حكومته المتحيزة ضد العرب.

والمواجهة لابد أن تتم على مستوى شعبي أو حكومي، فإذا كانت الحكومات غير قادرة على المواجهة، فيمكن أن تقوم بها الجمعيات المدنية. ولكن علينا أن نذكِّر أنفسنا أن انسحاب أميركا من العراق، سيكون له أعمق الأثر عليها، فالحلم الإمبراطوري سينتهي، وسيؤثر هذا على “إسرائيل” التي عاشت دوماً في داخل إطار الحرب: الحرب الباردة، ثم الحرب ضد الشيوعية، ثم الحرب ضد القومية العربية، ثم الحرب على الإرهاب، فإذا انكمشت الولايات المتحدة الأميركية وطورت سياسة خارجية جديدة غير مبنية على التدخل في شؤون الآخرين ولا تحاول الهيمنة على العالم، فإن “إسرائيل” سوف تجد نفسها في أزمة حقيقية، فمقومات وجودها ستتلاشى. أقول إنها مسألة صعبة للغاية، ولكنها مع هذا ليست مستحيلة. ويجب أن نتذكر أنه بوسع الولايات المتحدة أن تحاول الهيمنة عن طريق توقيع اتفاقيات مع بعض الحكومات “الصديقة” وإنشاء قواعد عسكرية فيها، أي أن التغيير لن يكون حقيقياً، فهو تغيير في الآلية وليس في الهدف النهائي.

وعادة ما يميز الخطاب العربي (وحتى الإسلامي) بين الشعب الأميركي والإدارة الأميركية، بل ويُقال بأننا مع الشعب الأميركي وضد حكومته وآلته العسكرية. لكن هذا الشعب”الطيب” و”الفطري”، لا تستفزه ما تقترفه حكومته من جرائم في حق شعوب العالم، ولا يثور عليها، ولا يستعمل الآليات الديمقراطية كوسيلة لتنحية هذه الإدارة المعادية للإنسان، وهذا وضع غريب يحتاج للتفسير.

وأذهب إلى أنه قد حدث تقسيم للعمل في الولايات المتحدة، بحيث تخصصت النخبة الحاكمة والحكومة الفيدرالية في مسائل الدفاع ومسائل الأمن والسياسة الخارجية، وتركت للجماهير كل الأمور الأخرى مثل المطافئ والبريد والتعليم والرعاية الصحية ومدى نقاء مياه الشرب وبعض قضايا الأمن الداخلي مثل المرور، وكل ما يتخذ في هذا المجال يتم من خلال إجراءات ديمقراطية صارمة. أما القرارات السياسية الكبرى (السياسة الخارجية – ميزانية الدفاع- ميزانية المخابرات) التي تحدد مصير الأمة، فقد تُركت للنخبة الحاكمة (التي تسيطر عليها المصالح الصناعية والعسكرية) تفعل فيها ما تشاء حسب أولوياتها وحسب ما تمليه مصالحها وليس مصالح الشعب الأميركي.

وتعكس الصحافة الأميركية هذا التقسيم للعمل، فالأخبار العالمية والتحليلات السياسية تُنشر أساساً في جرائد ومجلات النخبة مثل “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست”. أما الجرائد الشعبية والمحلية والـ Tabloids التي تقرأها الجماهير، فهي تشير إلى “العالم” في نصف عمود، أما بقية الجرائد، فتنشر الفضائح والأخبار الخاصة بالجماعة المحلية، والجزء الأكبر مخصص لأخبار النجوم وفضائحهم وللإعلانات والأوكازيونات وكوبونات الخصم وهكذا. (لا أنسى يوم 6 يونيو سنة 1967 حين نشرت الصحيفة المحلية في المدينة التي كنت أقطن فيها في الولايات المتحدة خبر اندلاع الحرب في بضعة سطور، أما الصفحة الأولى، فكانت تحمل أخباراً عن افتتاح طريق جديد!). وجاء في إحصائية طريفة أن 24% فقط من الأميركيين نجحوا في أن يذكروا اسم رئيسي جمهورية سابقين، بينما بلغ عدد الذين يعرفون أسماء الأقزام السبعة في قصة سنووايت 77%. ولذا من النادر أن تقابل أميركياً يعرف آليات صنع القرار السياسي في بلاده، أو الهدف من القرارات التي اتخذت في مجال السياسة الخارجية. وفي غياب أحزاب سياسية لها برامج مختلفة توعي المواطن وتثقفه سياسياً، يقع هذا المواطن الأميركي العادي فريسة سهلة للإعلام ولتقسيم العمل الذي فُرض عليه وجعله غير قادر على فهم سياسة بلده الخارجية وتدخلها العسكري في كل أرجاء المعمورة، خاصة وأنه يتم تبرير عمليات الغزو العسكري والتدخل السياسي في شؤون الدول الأخرى، من خلال خطاب عالي النبرة ممتزج بلون قومي أميركي فاقع له أبعاد أخلاقية، فيتحدثون عن “القيم الأميركية” مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأمن القومي الأميركي. كما أنهم يلجأون لتخويف مواطن الولايات المتحدة، من عدو ما، كان في مرحلة من المراحل هو الشيوعية، وأصبح الآن الإرهاب الإسلامي! ورسّخوا في وجدانه أن هذا العدو يكره الديمقراطية ويحقد على الأميركيين بسبب أسلوب حياتهم ومعدلات الاستهلاك العالية التي يتمتعون بها، ولذلك عادة ما تبدأ الاحتجاجات على سياسة واشنطن الخارجية في الجامعات بين المثقفين الذين يدركون طبيعة الأكاذيب التي تطلقها النخبة الحاكمة. وتنتقل بعد فترة ليست بالقصيرة إلى الشوارع بين الجماهير العادية.

والله أعلم.

About this publication