Guilty until Proven Innocent

<--

لا أقصد في هذه الزاوية، الحديث عن الإنسان في الوطن العربي، أو في العالم الثالث؛ وإنما الإنسان في العالم أجمع، فقد أثبتت فضيحة التنصت الأمريكية على الإنسان في عقر دارها وعلى مخلوقات الله الإنسانية في سائر الأرض أن الإنسان متهم ومحكوم عليه سلفاً ولا مجال لبراءته أو التوقف عن مراقبته .

والسؤال أو بالأصح الأسئلة التي لا تزال تثار بعد إعلان فضيحة التنصت هذه هي: هل يمكن القول إن العالم كان إلى ما قبل أسابيع يعيش حالة أكذوبة كبرى عن الديمقراطية التي لا حدود لأبعادها في الولايات المتحدة الأمريكية؟ وهل الاكتشاف أو الانكشاف الذي يعرّي دولة الحريات وحقوق الإنسان سيدفع بشعوب العالم إلى إعادة النظر في تاريخ علاقتها مع هذه الدولة التي لم تعد عظمى إلا في التنصت على مواطنيها وعلى الآخرين؟ وهل نلوم من خدعنا أم نلوم أنفسنا لأننا قبلنا بمحض إرادتنا أن نكون ضحايا الخديعة “المتقدمة”، ولم نتوقف لنتساءل بوعي عن حقيقة هذه الدولة (العظمى) وعلاقتها بالآخرين الأقربين منها في المواقف والأبعدين؟

لقد كانت فضيحة التنصت كارثة بكل ما للكلمة من معان مهولة، ويكفي أنها أوضحت بجلاء أن المواطنين في الولايات المتحدة ليسوا أحراراً ولا يمارسون حياتهم في منأى عن الرقابة ورصد الأنفاس، وأنهم جميعاً من دون استثناء في خانة المشكوك في ولائهم . وأعترف أنني كنت كغيري من سكان هذا العالم الموضوع تحت الرقابة الصارمة، أظن أن شبكة التنصت الأمريكية كانت خاصة بالخارج وليس بالداخل الأمريكي وأنها تمحورت حول رؤساء الدول والحكومات وغيرهم من الساسة الكبار في هذا البلد أو ذاك، وإذا بي أفاجأ بأن التنصت عام ويشمل جميع البشر ولا يستثنى منه جنسية من الجنسيات، وأن كل إنسان يستخدم آلة التليفون القديم أو الحديث والأحدث، سواء كان في الشرق أو الغرب في أدغال إفريقيا، أو غابات الصين رهن المراقبة، وكلامه عرضة للتسجيل والفحص والتحليل، مهما كان تافهاً وشديد الخصوصية .

وإذا ما أضفنا إلى ذلك مهمة الأقمار الصناعية التي تدور حول الأرض وتراقب حركة البشر من فوق فإننا سنكتشف أن حركاتهم وسكناتهم مرصودة أيضاً، وأن بائع البطاطا في القاهرة، وبائع القات في صنعاء خاضعان لهذا النوع من الرقابة الفوقية . وليس بعيداً أن هذا الأسلوب من المتابعة قادر على التسلل إلى البيوت لمعرفة ما يحدث فيها . ومثل هذه التصرفات الاحترازية لا تدخل في باب الفضول والاعتداء على أسرار الناس وخصوصياتهم فحسب؛ وإنما هي في مفهوم ساسة هذا القطب الوحيد جزء لا يتجزأ من الضرورات اللازمة لحماية الولايات المتحدة زعيمة العالم الحر، كما كانت تدعى في الخمسينات والستينات، ورائدة البشرية إلى الديمقراطية وحرية التعبير وإشاعة حقوق الإنسان! ودولة عظمى توهم نفسها بأنها تقوم بهذه المهام “الجليلة” وقواعدها العسكرية ترابط في ثلاثة أرباع المعمورة من حقها أن تحمي نفسها ابتداءً من الداخل وإلى أقصى مكان في الخارج .

وأتمنى على أبناء هذا العالم المخدوع ألا يسارعوا في الكفر بالمفردات التي لعبت الولايات المتحدة دوراً في إشاعتها، ومنها على سبيل المثال حرية التعبير، وحقوق الإنسان، وحق تقرير المصير وغيرها من مفردات قاموس الحريات الذي حفظته طلائع البشرية المعاصرة عن ظهر قلب، فهذه المفردات في جوهرها تعبير عن الحاجة الماسة للتغيير، وكانت ولا تزال تحمل الكثير من الأمل والخير للإنسان في حاضره ومستقبله . وإذا كان البلد الذي نادى بها ويدّعي أنه تبناها لفترة قد تخلّى عنها وعمل على تشويهها من ناحية وتجاوزها من ناحية ثانية، ولا يزال ينظر إلى الإنسان في كل مكان بوصفه متهماً حتى لو ثبتت براءته، فإن ذلك لا يقلل من أهمية قاموس الحريات ولا من حاجة الشعوب إليها . ويكفي ما شهدته الإنسانية في غيابها من ظلم وقمع واستهتار بكرامة الإنسان وآدميته وحريته . –

About this publication