America in Black and White

<--

لم تصبح أمريكا الفردوس الأرضي الذي حلم به الشاعر والت ويتمان، كما أنها لم تؤمرك الكوكب كما حلم الرئيس روزفلت، لهذا هجاها شعراؤها وروائيوها من طراز غنزبرغ وكورسو وميلر، وإن كان هجاؤهم كما اعترفوا ليس دافعه الكراهية بل الحب والرغبة في أن يكون الواقع أفضل.

ومن شاهدوا فيلم «هذه هي أمريكا» لا بد أنهم يتذكرون تلك المشاهد التي تفتضح التناقضات الاجتماعية والتفاوت الطبقي، إضافة إلى ما يحصده المجتمع الأمريكي من شرور هي من إفراز العنصرية والمكارثية والفراغ الروحي.

لهذا تهجع تلك التناقضات قليلاً لتعاود الاندلاع من القُمقم بشكل يفاجئ الجميع، باستثناء هؤلاء الذين شاهدوا الطائرة منذ الإقلاع، حسب التعبير الشهير ل ت. س. إليوت، أي الذين يدركون جذور التناقضات ولا تفاجئهم تجلياتها!

وإذا كان لكل قضية كبرى في التاريخ حكاية، فإن حكاية التمييز العنصري بين البيض والسود يُؤرخ لها بحادثة الحافلة التي حاول البيض فيها منع سيدة سوداء من الجلوس إلى جوارهم، لكن مثل هذه الوقائع تبقى ذات دلالات رمزية لأن الظواهر الاجتماعية والثقافية أشد تعقيداً من ذلك، ورغم أن قوانين المساواة أتاحت لمرشح من غير البيض أو ما يسمى «الواسب» الوصول إلى البيت الأبيض، فإن النسيج الاجتماعي لا يستجيب بسهولة حتى للقوانين، لأن له أعرافاً أفرزها موروث ثقافي لعدة قرون!

وما تشهده أمريكا من أعمال عنف متعددة الأسباب يصعب اختزاله في دافع سياسي أو ديني أو عرقي، لأنه أحياناً يكون حصاداً لكل هذه العناصر.

إن أمريكا التي تظهر على الشاشات بلون قوس قزح لها جيولوجيا اجتماعية تفتضح طبقات سُفلى من النسيج، فما رسم بالأبيض والأسود لم يصبح خارج المكان والزمان، وقد يمر كثير من الوقت قبل أن تُودع أمريكا ذلك الموروث الثقيل، والحلم الذي طالما ردده لوثر كنغ، وردد صداه أوباما لن يتحقق على ما يبدو في المدى المنظور!

About this publication