لم أقل أبداً «أنا شارلي»
قبل الهجوم الشنيع الذي استهدف صحيفة شارلي إيبدو العام الماضي، كان هناك الكثير من الناس خارج باريس ممن لم يسمعوا بهذه الصحيفة الساخرة. ولكن الاعتداء الإرهابي الذي أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وجه ضربة قاسية لأولئك الذين يؤمنون بأن حرية التعبير حق أساسي من حقوق الإنسان. وقد أثار اغتيال صحفيي «شارلي إيبدو»، الذي نفذ بدم بارد، صدمة في جميع المجتمعات الحديثة، ما دفع إلى تجمع قادتها في باريس، والاحتشاد تضامناً مع الشعب الفرنسي واستنكاراً للاعتداء على حرية التعبير. وكان أيضاً السبب في تصدر هاشتاغ «أنا شارلي» (#JesuisCharlie) واجهة الاهتمام العالمي، حتى أن كثيرين من المسلمين استخدموه ليؤكدوا من جديد حقيقة أنه يستحيل لهؤلاء الوحوش أن يمثلوا بأي شكل وجهة نظر المسلم الحقيقي.
بعد المحنة السوداء التي عاشتها الصحيفة، نشر العدد التالي لها في موعده، وتضامناً معها، قام الناس الذين لم يسمعوا قط ب «شارلي إيبدو»، وأولئك الذين لا يتفقون مع آرائها ولا يجدون «سخريتها» مضحكة، باقتناء العدد. وتم بيع مليون نسخة من العدد الذي تلا الهجوم لصحيفة لم تتعد مبيعاتها في أي وقت الستين ألفاً.
في الأسبوع الماضي تجدد الحديث عن صحيفة شارلي إيبدو في الأخبار مرة أخرى، لكن ليس باعتبارها رمزاً لحرية التعبير، ولكن كمثال على العنصرية المتنكرة في زي الفن. فبعد المضايقات الجنسية التي تعرضت لها النساء الألمانيات في كولونيا يوم رأس السنة الجديدة على يد مهاجرين، نشرت «شارلي إيبدو» صورة كاريكاتورية تصور جثة الطفل السوري المهاجر إيلان كردي (3 سنوات)، التي جرفتها الأمواج إلى الشواطئ التركية بعد أن غرق به القارب مع من كان على متنه وهم يسعون إلى طلب اللجوء، من أنه يكبر بوجه قرد، ويصبح المغتصب الذي هاجم النساء الألمانيات.
صورة إيلان الصغير وهو مرمي ميتاً على الشاطئ التركي هزت الضمير العالمي حتى الصميم، وجسدت الرعب المطلق الذي يمكن أن يكون عليه الجشع البشري، والشهوة إلى السلطة. وحينما كان يحاول العالم استيعاب المصير المروِّع لهذا الطفل، اعتقد فنانو «شارلي إيبدو» أنه سيكون «مضحكاً» باستخدام هذه الزهرة الصغيرة الناطقة بالبراءة في عمل عنصري يتزيا بالفن ويحولها إلى مغتصب. ولا غرابة في ذلك، إذ سرعان ما اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بردود أفعال مليئة بالدهشة حيال هذا الكاريكاتير القاسي والعنصري الذي لا يمكن اعتباره سوى أنه قطعة من آلة الدعاية المروجة للكراهية التي لا ينبغي أن يكون لها مكان في العالم الذي نعيشه اليوم.
لم أشعر بالصدمة لرؤية هذه القذارة التي تخرج بها صحيفة شارلي إيبدو، وفي الحقيقة لم أكن أتوقع أي شيء أقل من ذلك. كما قلت، لم يكن معظم الناس قد سمعوا بصحيفة شارلي إيبدو قبل الهجوم، وبالتالي لم يكن لديهم علم بوضاعتها التي لا يمكن تصورها. العمل الذي تنشره «شارلي إيبدو» لا يختلف عن آلة الدعاية السوداء أو الدعاية الدينية المتطرفة، التي تلغي أي فكرة لدى «الآخر»، وتحرِّض على التفرقة. ويجري هذا في وقت أصبحت فيه حكومة الولايات المتحدة تدرس إزالة تعابير عنصرية من الأعمال الأدبية العظيمة، وتتعرض لضغوط لإنزال تماثيل شخصيات بارزة في التاريخ الأمريكي لتورطهم في تجارة العبيد، وذلك لأنه على الرغم من أن دستور الولايات المتحدة يحمي حرية التعبير، إلا أنه يحدد أن هذه الحرية ليست مطلقة.
على الرغم من الرعب الذي انتابني من وحشية وقسوة الهجوم على «شارلي إيبدو» والخوف الشديد على فقدان الحريات الصحفية، لكنني لم أقل مرة «أنا شارلي».. دعونا نواجه الأمر، لا أنت ولا أنا شارلي. لا أنت ولا أنا قد ندخل يوماً ما قاعة وفي مرآنا شخص يختلف عنا نسميه قرداً. ولن نجلس مع بشر من مختلف الأديان ونزدري آراءهم الدينية ومعتقداتهم. ولن نفكر بتاتاً في جثة طفل هامدة كنكتة تثير الضحك.
لم أقل أبداً «أنا شارلي إيبدو» لأنني لست شارلي ولن أكون أبداً.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.