«صدمة» العنصرية
بينما كنت أتابع إدانة المحكمة لرجل الشرطة الأبيض الذى قتل جورج فلويد، وقعت عيناى على خبر نشرته الصحف يقول إن شابا أسود يقاضى شرطة شيكاغو لما حدث له منذ شهور. فقد فوجئ وهو يسير فى الشارع بشرطيين من البيض يجريان نحوه، قبل أن يدفع به أحدهما بقوة ليصطدم بحائط، وحين وقع على الأرض ضربا رأسه بالرصيف مرات متتالية. وبينما الشاب ينزف اقتاداه للمخفر، حيث قضى أربعة أيام.
وقد أصيب الشاب بارتجاج بالمخ وقطع فى وجهه وجروح فى معصمه. ورغم العنصرية القبيحة التى تنطوى عليها الواقعة، فإن الأسوأ منها- فى تقديرى- كان تبرير الشرطيين لما حدث. ففى تقريرهما عن الواقعة قالا إنهما قاما بتوقيف الشاب «لأن علامات الصدمة ارتسمت على وجهه» حين رآهما، فاعتقدا أنه يخفى شيئا، قد يكون سلاحا. أما الشاب، الذى لم يكن يحمل سلاحا، فقال إنه همّ يجذب نظارته من جيبه حين رأى الشرطيين يجريان نحوه. وهو ما قاله لهما مؤكدا أنه لم يكن يقاوم تقييده.
ومسألة الصدمة تلك هى جوهر محنة السود بأمريكا. فالطبيعى أن تظهر علامات الهلع والصدمة. فالشباب السود الذين يتعرضون للعنف المفضى أحيانا للموت على يد رجال الشرطة البيض يصيبهم بالهلع متى اقترب أحدهم منهم. وأمهاتهم يعلمونهم منذ الصغر كيف يتصرفون خارج بيوتهم، وخصوصا مع رجال الشرطة البيض، لكى لا يؤدى الموقف لقتلهم. وتلك التنبيهات ذاتها تجسيد للمحنة نفسها.
لكن ذلك الشاب خالف واحدة من أهم تلك التنبيهات حين تحسس جيبه بحثا عن نظارته. وإن كان قد فعل ذلك بعدما لاحقه الشرطيان لا قبله. ومخالفة التنبيهات ربما كانت المسؤولة أيضا عن مقتل شاب آخر بمدينة منيابوليس نفسها، التى شهدت مقتل جورج فلويد. فقد استوقفت شرطية بيضاء الشاب الأسود دونتى رايت بسبب انتهاء رخصته، وحين همت بتقييده قاومها فأردته قتيلا. ورد فعل الشرطية لم يكن ليحدث، على الأرجح، لو أن الشاب ذو بشرة بيضاء. وهو ما عبرت عنه السيناتور إيمى كلوباتشار، التى تمثل الولاية بمجلس الشيوخ، إذ قالت «لا ينبغى أن نخلط بين العدل ومحاسبة المخطئ. فالعدل الحقيقى لم يتحقق طالما أن الرخصة المنتهية قد تودى بحياتك حين يوقفك شرطى المرور».
وكانت المفارقة أن دونتى رايت قتل أثناء محاكمة الشرطى الذى ركع على رقبة فلويد حتى الموت، وجرت مراسم جنازته بعد يومين من صدور الحكم. والجنازة ذاتها جسدت المحنة والمقاومة معا، إذ لم تحضرها فقط عائلة فلويد، وإنما عائلات الكثير من الشباب السود الذين قتلوا على يد رجال الشرطة البيض فى السنوات الأخيرة. لكن لعل الأكثر دلالة كان حضور عائلة إيميت تيل، الطفل ذو الأربعة عشر عاما، الذى صار أيقونة حركة الحقوق المدنية فى الستينيات، بعدما قتله رجلان من البيض عام 1955 ضرباه وشوها جثته قبل إلقائها فى النهر، بدعوى مغازلة سيدة بيضاء.
وهى السيدة التى اعترفت بعد نصف عقد بأن جزءا من شهادتها كانت كاذبة. وقتها، أصرت أم الطفل على أن يظل الصندوق الذى فيه جثة طفلها مفتوحا طوال مراسم الجنازة ليرى القاصى والدانى ما اعترى جسد ابنها من تشويه وحشى. لكن قتل السود لم ينته ولا انتهت معه مقاومة الأمهات السود. فلو كان أبناؤهن أحياء، تكون التنبيهات التى لم تحمهم يوما من الشعور «بالصدمة» والهلع حين يستوقفهم البيض، ولو كانوا أمواتا، يكون إصرارهن على فضح ما «يصدم» العالم مما ارتكب فى حقهم.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.