آخــر تحديــــث
هل كان العرب أول من اكتشف أمريكا فعلا؟ وإذا ما كانت الإجابة بالنفي فهل ساهموا بشكل أو بآخر في هذا الاكتشاف؟ هذه التساؤلات هي محور كتاب “الملاحة العربية في عصور الازدهار” لمؤلفه طارق الحمداني والذي تولى نشره المجمع الثقافي، هذا الصرح العلمي الذي له دور بارز في المحافظة ونشر التراث العربي .
منذ أن اكتشف الاسبان البلاد الجديدة أو ما عرفت لاحقا باسم أمريكا، وذلك في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي وبدايات القرن السادس عشر، كان التساؤل يدور حول الإسهام العربي في هذا الإنجاز. فمما لا شك فيه أن العرب قد استطاعوا إحداث ثورة في عالم الجغرافيا والفلك والملاحة وهو ما يدخل ضمن الحقائق ولا يرقي إليه الشك. هذه الثورة استفاد منها وبلا شك، الأوربيون عندما استمدوا جذور نهضتهم من العلوم والمعارف العربية ليضعوا أسس حضارة جديدة وينشروها حول العالم. فعندما كان علماء أوروبا في القرون الوسطي ما زالوا يجادلون حول كروية الأرض كان علماء المسلمين قد استقروا ومنذ زمن على أن الأرض كروية تعززها أدلة وبراهين. وعندما بدأت أوروبا في القرون الوسطى تبدأ دراساتها في الفكر الجغرافي كان العرب المسلمون قد طوروا نظريات عدة حول هذا الموضوع. وعندما بدأ الأوروبيون في تطوير علوم الفلك والفلسفة كانت أساساتهم معتمدة على معارف ونظريات العرب والمسلمين. فقد ترك علماء العرب المسلمون تراثا علميا كبيرا. فكتاب القلقشندي “صبح الأعشى” والإدريسي “نزهة المشتاق” وابن فضل الله العمري “مسالك الأبصار” كانت جميعها النبراس الذي أضاء للأوروبيين الطريق نحو أمريكا.
كان للدراسات العلمية العربية تأثير كبير على الغرب وبالتالي مهدت هذه الدراسات كافة السبل لاكتشاف أمريكا على يد كولومبس الذي اطلع على النظريات العربية في الترجمات اللاتينية. فكما تورد الكتابات العربية فقد أطلق العرب على المحيط الأطلسي “بحر الظلمات” وذلك تعبيرا عن الخوف الذي اقترن في أذهانهم تجاه هذا البحر العظيم. ولذلك فقد كانوا يكتفون بالسير قبالة السواحل الأفريقية والأوروبية حتى تغيب عنهم معالمه. ولكن هذا لا يعنى أن أحدا منهم لم يغامر بالإبحار في الأطلسي والوصول إلى جزره العديدة وليعرفوا أين انتهاؤه. فهناك بعض الأخبار التي أوردها الكتاب، كما أوردها الإدريسي في “نزهة المشتاق”، والتي تشير إلى أن بعض المغامرين المسلمين قد جابوا بعض جزر الأطلسي وأتوا منها بغنائم كثيرة. وسميت هذه المغامرة بمغامرة “الفتية المغررين” وهي مغامرة لمجموعة فتيان من عرب الأندلس الذين جابوا المحيط ويعتقد بأن أقدامهم قد وطئت البر الأمريكي.
هذه المغامرة كانت معروفة بل وشائعة في أوروبا. ومهما كانت درجة أهميتها فقد أشار كولومبس بنفسه في مذكراته بأنه استفاد من آراء الجغرافيين العرب حول كروية الأرض ومن الخرائط العربية وعلوم الفلك والملاحة. فقد ظهر ابن ماجد قبل كولومبس أو في زمنه وقد تنبه الغربيون منذ البداية لعلوم ابن ماجد تماما كما تنبه الأوروبيون في القرن العشرين لذلك التراث الضخم الذي تركه ابن ماجد. فراحوا يدرسونه لكونه يجمع بين الخبرات العلمية والنظرية.
لقد عالج الكثير من الباحثين الأوروبيين والعرب هذه المسألة في كتبهم وبحوثهم. وبينما نفى البعض أن يكون ابن ماجد هو الملاح الذي قاد سفن فاسكو دي جاما إلى الهند، أكد البعض الآخر هذه النظرية التي يدعمها ذلك التفوق العلمي الذي حواه تراث ابن ماجد. ومنذ القرن الخامس عشر تزايد اهتمام البرتغاليين بالملاحة والفلك الذي غايته الاكتشاف الجغرافي تسعفهم في ذلك التقنيات العربية في هذا المجال كالبوصلة والاسطرلاب. وكانت رحلة بيرودي كوفلهام الاستكشافية إلى الشرق تصب في هذا المجال وكذلك رحلة بارثليميو دياز قبل أن يتمكن فاسكو دي جاما في العام 1497 من القيام برحلته المشهورة والتي تمكن خلالها من الدوران حول رأس الرجاء الصالح وشرق افريقيا والوصول إلى سواحل الهند.
وبينما اتجه فاسكو دي جاما شرقا، اتجه كولومبس غربا مكتشفا العالم الجديد. ففي عام 1492 تمكن هذا الملاح الإيطالي من الوصول إلى الجزر التي تحدث عنها “المغررون العرب” على الرغم من أن كولومبس لم يكن يريد إلا طريقا يوصله للهند. فقد أشاد المؤرخون الأوروبيون بأن ابن رشد هو احد الأشخاص الذين جعلوهم يتنبؤون بوجود عالم جديد خلف مياه الأطلسي. كذلك أشار كولومبس في مذكراته بأنه استفاد من آراء الجغرافيين العرب حول كروية الأرض.
فتح الطريق إلى الهند، عبر رأس الرجاء الصالح، للبرتغاليين في بدايات القرن السادس عشر الميلادي فرصا عديدة للاستعمار والتجارة والسيطرة الاقتصادية علاوة على الثروات الضخمة التي سيطروا عليها بسيطرتهم على المشرق. كما فتح كولومبس، باكتشافه العالم الجديد الطريق أمام الإسبان للسيطرة على العالم الجديد وثرواته. وبالتالي سيطرت أوروبا منذ القرن السادس عشر الميلادي على العالم بأسره ليتقاسم القطبان ثروات العالم ويتحكمان في مقدرات شعوبه. في الوقت ذاته تراجعت القوى العربية والإسلامية نتيجة لأسباب سياسية عديدة. فلم يقتصر الأمر على الضعف والتراجع العربي بل خضع العرب أنفسهم للاستعمار الأوروبي ليمتد ذلك الاستعمار في بعض المناطق إلى نهايات القرن العشرين. فلم تشفع للعرب مساهماتهم المتعددة في الحضارة العالمية حيث انتقل مشعل العلم لأيدي الأوروبيين. وبينما قفزت مساهمات الحضارة الأوروبية قفزات كبيرة في المجالات العلمية والتقنية تراجعت المساهمة العربية في هذه المجالات اليوم إلى مستويات متدنية.
إن هذا الكتاب يلعب دوراً مهماً في التبصير بإنجازات العرب والمسلمين الماضية كما يذكر الجيل الجديد بإنجازات الأجداد. وربما تنفع هذه الذكرى في الحفاظ على هذا الإرث الحضاري العربي الإسلامي سليما معافى في وجه حملات التشكيك المنظمة التي يقودها الغرب بين الحين والآخر والتي تهدف إلى التشكيك في إسهامات العرب للحضارة العالمية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.