عبدالله الحكيم
أول ثقافة عايشتها خارج حلقة دروس القرآن الكريم كانت تتمثل عبر قراءات الكارتون بمطبوعاته الورقية. والى هذه الأيام لا أزال من وقت لآخر أدمن أفلام الكارتون بارتدادات الطفولة حيال جرأة الخيال وهو يأوي الى الذاكرة باحثا عن واقع بديل يمكن للأطفال ببراءة وللبالغين في احلام اليقظة أن يستوحوا منه نماذج لاستشعار الحياة وهي تفلت من أصحابها بأفعال الهلاك وهم ربما كانوا يعودون اليها بجنح الخيال وهي في الواقع ترفض العودة اليهم مرة أخرى. كان نبيل فوزي هو أول شخصية كرتونية ألج الى ذاكرته من الداخل، فقد أثار فضول طفولتي.. ولسبب أو لآخر فقد كنت أعتقد أنه لبناني ويستحق بجدارة لقب أقوى رجل في العالم. غير انني لا أزال مدينا لأحد أصدقائي القدامي من أبناء الذوات عندما قال لي نقلا عن روايات أبيه الذي يجيد الانجليزية ان نبيلا هو مجرد اسم عربي يساعدنا في التعرف على ظواهر وممارسات لا نعرف شيئا عنها، بحيث يختفي سوبرمان الحقيقي وراء الجنسية الأمريكية.
هنا فقط تخليت بعد زمان طويل عن مظاهر التسميات بطابع الوكالة، وبامكاني القول إنني بدأت أستشعر الوعي يتدفق الى ذاكرتي قليلا.. قليلا، فقد استيقظ الوعي في رأسي متأخرا بعض الشيء، وذات مرة قلت لصديق فقير مثلي، اذ كنا نتبادل مطبوعات الكارتون بأن أمريكا رائعة وملهمة والا كيف ولد السوبرمان في كوكب الكريبتون، ولم يقع اختياره على غير أمريكا مقرا لاقامته وممارسة أعمال العدالة التي ربما تعم العالم كله.
لقد كنا اطفالا وحسبنا الاعجاب الذي منحناه نبيل فوزي ولاحقا عندما انتشر السوبرمان داخل شاشات التلفاز كنا نرتفب ظهوره لكي نشفي غليلنا برؤية القبض على المجرمين وهو يستخرجهم من باطن الأرض فيسوقهم أمامه مثل الغنم أو يطير اليهم اذا ما ارتقوا سلما ابتغاء الهرب من وجه العدالة.
لقد استسلمت شريحة كبيرة من جيلنا الذي جئنا متزامنين معه واليه الى تذوق نكهات متفاوتة من الهلس عبر مطبوعات الكارتون. ولن أصف الهلس الذي تجرعناه بغير ارشاد بأنه هلس عابر أو خطير. ولكن دعني أكتب اليك كما رأيت، اذ لا أزال أتذكر الى هذا اليوم أننا وهم أيضا جميعا كنا نؤمن بقيم تنفذ الينا عبر التلفاز ومن قبل ذلك فقد أودعنا عيوننا بما يكفي فوق مطبوعات الكارتون. كان ابي يعتقدني مثقفا، وقال لي أخي الأصغر ذات مرة انه لا يرى غير تصاوير تطفو فوق الورق، وأنه لا يؤمن بسوبرمان مرسوما فوق الورق، وهو كذلك لن يؤمن به حتى لو رآه يمشي متأثرا بقضايا العالم تحت الشمس.
لكن الموقف بالنسبة لي كان شيئا آخر، فقد أوجد السوبرمان حلولا كثيرة لمشاكلهم المزمنة.
لم اكن أعرف هذه المشاكل جميعا – في حينه – ولكن حدث فيما كنت أتفرج على السوبرمان نفسه في آخر تعديل تلفزيوني انني بدأت أتفهم حقيقة من نوع آخر..
فالسوبرمان الذي جاء من كوكب كريبتون طالبا ود التقرب البشري الى الأمريكيين ساعد وزارة العدل في تعقب المجرمين والقي القبض على كثير من مخربي الاقتصاد والأكثر من هذا وذاك أنه ربما يكشف اليهم منشآت نووية ويقودهم الى مركز عصابات الدعارة عملا بنصيحة الرئيس بوش, اذ قال اليهم في خطاب أخلاقي بارع من نوعه أنه يجب على الأمة الأمريكية تحرير رقيق الطفولة المعذبة داخل وخارج الأراضي الأمريكية..
وبصراحة لم أكن أفهم الكثير من تعقيدات المطالبة العادلة وفق اجندة الخدمات السياسية والاجتماعية التي تقدمها أمريكا للعالم، ولكن حدث ذات مرة وان كبرنا ولم يعد السوبرمان رواية تثير في ضمائرنا أية دواع للتسلية أو تحريك الخيال الجماعي حيال ما لا يمكنك الحوار معه في ذروة النضج بدواعي الكرتون وأعمال الابداعات البريئة.. ومع ذلك فقد فوجئنا بشيء آخر من نوعه.
لقد انتهت السبعينيات واعتقدنا أن سوبرمان بصيغة الكارتون قد انقرض تماما، والصحيح أن سوبرمان لم ينقرض، فقد توقف دوره الكارتوني فقط لا غير وجاء بأثره في الثمانينيات سوبرمان آخر أكثر واقعية وجرأة وتجاوزا لما نحن عليه من ادراك وبصيرة ورؤى وعقل.
انظر الى (رامبو).. المناضل دوما وأبدا عن مجد أمريكا وعن العدالة الأمريكية في ذاكرة العالم.
لقد طور الأمريكيون من أدبيات الابداع الكرتوني نسيجا ترفيهيا آخر لخدمة نفس الأهداف التي كان يناضل من أجلها المشروع الكرتوني بصيغة عربية. وهكذا فقد تطورت الخرافة واصبحت منجزا واقعيا من نوعه.
يتبع ولا يتبع
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.