أميركا… والاستبداد الدولي
وليد نويهض
إلى أي حد تستطيع الولايات المتحدة أن تستمر في سياسة الاستبداد الدولي التي قادتها منفردة منذ تسعينات القرن الماضي؟ كل التحليلات، تشير إلى أن أميركا وصلت إلى حدها الأقصى في استراتيجية الانتشار العالمية، وهذا يعني أن استمرارها في مثل هذه السياسة سيؤدي بها إلى نوع من الانشطار الذاتي الذي أصاب سابقاً الكثير من الدول العظمى أو الامبراطوريات التاريخية.
سياسة الاستبداد الدولي التي انفردت بها الولايات المتحدة منذ قرابة العقدين تشبه كثيراً تلك السياسات الاستبدادية التي تمارسها عادة أنظمة قمعية منغلقة ضد أهلها في إطارها القطري أو في محيطها الإقليمي أو بيئتها الجغرافية. فالاستبداد في النهاية له حدوده السياسية ومحكوم أيضاً بشروط القوة. والقوة تحتاج دائماً إلى اقتصاد ليغذي آلتها العسكرية. وهذه الشروط في النهاية هي التي تتحكم بالمدى الجغرافي والسياسي والبشري الذي يمكن أن تصل إليه الطموحات الامبراطورية. فالمسألة في النهاية لا تقتصر على القوة العسكرية (آلة الحرب) وانما أيضاً تتصل بمجموعة إمكانات لها علاقة بالقوة البشرية والمساحة الجغرافية وموازين القوى.
مثلاً تستطيع الولايات المتحدة الآن أن تهزم عسكرياً أية دولة في العالم. ولكن الفوز العسكري في مكان ما لا يعني بالضرورة أن أميركا حققت انتصاراً سياسياً. فهناك فارق كبير بين الفوز العسكري والانتصار السياسي. فالجانب الأول يقتصر على إمكانات القوة الحربية بينما الثاني يتصل بمجموعة شروط تتعدى إطار الآلة العسكرية. وهذا بالضبط ما حصل للإدارة الأميركية الحالية حين قررت خوض حروبها الخاصة في أفغانستان ثم العراق. وكانت النتيجة أن أميركا حققت فوزها العسكري، ولكنها فشلت في تسجيل انتصارها السياسي. فحتى الآن لاتزال تواجه مقاومات مختلفة العناصر والمنابت في البلدين ولا تعرف كيف تدير الأزمة وما هي الشروط المطلوبة لاحتواء التداعيات السلبية التي نجمت عن الحربين.
أفغانستان والعراق مجرد مثالين على النتائج الخطيرة المترتبة عن استراتيجية الانتشار العالمي تحت مظلة استبدادية تحاول فرض شروطها وتصوراتها من طريق القوة على شعوب تتميز بخصائص حضارية تولد نوعاً من الممانعة الذاتية التي لا يقوى أكبر جيش في العالم على كسرها أو ترويضها.
نعود إلى السؤال: إلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار في سياسة الاستبداد الدولي من طريق الانتشار الامبراطوري؟ كل التحليلات باتت شبه متوافقة على مبدأ أن أميركا لم يعد بإمكانها أن تواصل هذه الاستراتيجية الانتحارية إلا إذا قررت إدارتها فعلاً الانتحار السياسي من خلال المكابرة والمكايدة.
سياسة المكابرة والمكايدة وعدم الاعتراف بالخطأ تشكل فعلاً نزعة استبدادية تقوم على فكرة القوة العسكرية. ولكنها في النهاية لن تستطيع مواصلة الطريق في عالم متشعب وواسع الأرجاء وتحكمه مجموعة شروط تتصل بالبنية السكانية والتكتلات الحضارية.
أميركا تستطيع تحطيم البنى التحتية لأية دولة في العالم. ولكنها لا تستطيع تحطيم إرادة الممانعة عند الشعوب. وهذا الفارق بين البنى التحتية والبنى البشرية يفسر أسباب تلك النجاحات العسكرية مقابل الفشل في احتواء الفوز وتحويله إلى انتصار سياسي.
أشارت التقارير الاستراتيجية العسكرية الأخيرة إلى أن الولايات المتحدة تصرف بين 47 و48 في المئة من الانفاق العالمي على التسلح والدفاع. وبلغة الأرقام يعني الأمر أن أميركا التي تشكل 5 في المئة من سكان العالم تنفق قرابة 50 في المئة من انفاق 95 في المئة من الكرة الأرضية على الحروب والدفاع والتسلح. وهذا يشكل خللاً في التوازن البنيوي بين النسبة السكانية والقدرة الإنتاجية التي تسمح بمثل هذا الكم الهائل من الانفاق على قطاع واحد.
أميركا مثلاً يقدر إنتاجها من محصلة الدورة السنوية العالمية للإنتاج ما نسبته 20 في المئة. وهذه نقطة إضافية تؤكد خطورة هذا الخلل البنيوي بين دولة تشكل 5 في المئة من سكان العالم وتنتج 20 في المئة من الدورة العالمية وتنفق بين 47 و48 في المئة على الدفاع والحروب والتسلح. وهذا الفارق النسبي بين الإنتاج من جهة والدفاع من جهة أخرى يؤشر على أن إمكانات استمرار الولايات المتحدة في سياسة الانتشار والتقويض والاستبداد الدولي وصلت إلى حدودها القصوى. وفي حال استمرت في مغامراتها الحربية فإن الأمر سينقلب عليها كما حصل في تجارب امبراطورية سابقة.
المسألة إذاً لا تقتصر على القوة العسكرية لأن شروط القوة محكومة بمجموعة عناصر أخرى تتصل بالحجم السكاني ونسبته والمساحة الجغرافية ونسبتها وموازين القوى التي تتشكل منها حضارات وشعوب وثقافات موزعة على العالم ولا تستطيع قوة واحدة أن تنفرد بإدارتها مهما سجلت من نجاحات عسكرية وحطمت من بنى تحتية. ففي النهاية البنى البشرية هي الغالبة وهي القادرة على الاستمرار في لعبة الصراع إلى نهايات لا يستطيع الاقتصاد الأميركي تحمل تداعياتها السلبية.
الاستبداد الدولي لا وظيفة تاريخية له في عالم يتغير. والانتشار العالمي الامبراطوري الذي تقوده أميركا اليوم سينتهي في حال استمر على حاله الفوضوية إلى انفراط الولايات المتحدة… كما سبق وانفرط عقد الكثير من الدول الكبرى.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.