مقامات الأرز
حمود أبو طالب*
كثير من العرب الذين غادروا لبنان بعد الهجوم الإسرائيلي لم يعودوا إلى ديارهم كنوع من التضامن المعنوي مع اللبنانيين، بل ذهبوا إلى مصائف ومنتجعات أخرى، كل حسب إمكاناته، وها هم جميعا يسترخون على الشواطئ ويدلقون على جلودهم مرطبات البشرة والكريمات المنعشة، ويشاهدون جلود اللبنانيين والدخان يتصاعد منها تحت الأنقاض.. العرب يحبون لبنان الطبيعة والحرية والجمال. أما اللبنانيون فلا شأن لهم بهم، ليذهبوا إلى الجحيم إذا لم يكن ظرف بلادهم يسمح بالاسترخاء والمتعة. أجزم أن الكثير من الذين يشاهدون الآن صغارهم يتقافزون في مياه الشواطئ والمسابح، لم يقارنوا للحظة بينهم وبين الأطفال الذين تفحموا في قانا، وغيرها من قرى ومدن لبنان.
بعض البلدان قدرها أن يساهم الجميع في قتلها بدم بارد. قدرها أن تكون ساحة لتصفية الحسابات وقياس القدرات ورسائل الحكومات وبروفات المشاريع المستقبلية، وفي وقت الانفراج أو الهدنات المؤقتة القصيرة يتبارى هؤلاء أنفسهم لإعلان حبهم الكبير للبنان واللبنانيين، وهم كاذبون.
عشرون يوما والجحيم يصب فوق لبنان، توجته إسرائيل بمذبحة جديدة في قانا لتثبت أن التاريخ سوف يكرر نفسه كثيرا مع هؤلاء العرب العاجزين. كل ما قاله بعض العرب لا يزيد عن شنشنة كلامية لتسجيل موقف ليس إلا، أما البعض فإنه خائف حتى من الكلام، مجرد الكلام.
عمتنا وولية أمرنا أمريكا تعربد كيف تشاء، وتقول ما تشاء دون أدنى اعتبار لأدنى قدر من المشاعر والكرامة. ولكن أين هي هذه المشاعر، وأين هي هذه الكرامة؟ بوش وبلير اجتمعا وأعلنا أن كل شيء قد يكون ممكنا الآن، إلا وقف إطلاق النار لأن الظرف غير مناسب. كونداليزا رايس جاءت المرة الأولى بسلة حلولها التي لا تزيد في مجملها عن إعطاء ضوء أخضر جديد لإسرائيل بمزيد من العدوان، وجاءت المرة الثانية لتكون النتيجة مذبحة قانا التي نتباكى الآن على ضحاياها ونملأ الشاشات والصحف بصورهم، ونحشد في مقالاتنا وأخبارنا وخطبنا مفردات الندب والعويل من أجلهم.
كل هذا يصير وسفراء أمريكا يقضون أوقاتا ممتعة في داراتهم الفاخرة في العواصم العربية، ويملون على بعض هذه العواصم ما يجب وما لا يجب أن تقوله وتفعله، وبالطبع هي لا تقول شيئا أكثر من مناشدة المجتمع الدولي، أما الفعل فإنها أجبن وأعجز من أن تفكر فيه.
دول عربية صرفت جل موارد شعوبها من أجل السلاح، ومازالت تنتزع ثمن لقمة المواطن لتشتري به سلاحا، لماذا؟ ومن أجل من؟ وماذا تنتظر أكثر من هذا الذل؟ حكام عرب ملأوا آذاننا طنينا بالوحدة والعروبة والدفاع المشترك والمصير الواحد، لكنهم ـ كعادتهم ـ منزوون الآن في قصورهم، لا يجرؤون حتى على الهمس، عيونهم شاخصة باتجاه واشنطن.
أموالنا في أمريكا.. وشبابنا في أمريكا.. وسفراؤنا في أمريكا. وذممنا في أمريكا. وها هي تقتل أطفالنا وشيوخنا ونساءنا، وتدوس بحذائها الإسرائيلي ما تبقى من كرامتنا. لبنان.. لك الله..
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.