في آخر قمة للرئيسين الأمريكي والروسي قبل مغادرتهما البيت الأبيض والكرملين، محاولة لتضييق مساحة الخلاف السياسي بينهما، على قاعدة مراعاة المصالح المتبادلة.
“قمة سوتشي” هذه لم تتمكن من معالجة الموضوعات الخلافية، غير أنها فتحت الطريق بين موسكو وواشنطن لمعالجتها بعيداً عن استعادة أجواء الحرب الباردة، كما يرغب بعض المعلقين أو المراقبين. فهذه الحرب ليست قدراً محتوماً بعد تشابك المصالح الدولية في عصر العولمة، وبعد استعداد روسيا لدخول منظمة التجارة العالمية في نهاية العام الجاري، وأمام تكلفة هذه الحرب المادية والسياسية في ما لو استعيدت فصولها بعدما دخل الاقتصاد الأمريكي في مرحلة ضاغطة، وحقق الاقتصاد الروسي بعضاً من النمو المنتظر في عهد الرئيس بوتين.
عشر قضايا تضمنها الاعلان الروسي الأمريكي في نهاية “قمة سوتشي” تحت عنوان “من أجل إطار استراتيجي” تمهد الطريق للرئيسين المقبلين في روسيا والولايات المتحدة كي يعالجا نقاط الخلاف، ويوطدا نقاط الاتفاق على المصالح المتبادلة. عشر قضايا ستترك آثارها على مجمل العلاقات الدولية والنظام العالمي، وهي:
في الاستراتيجيا: أكد الاعلان المشترك أن روسيا والولايات المتحدة لم تعودا عدوتين، ولا تشكلان تهديداً استراتيجياً الواحدة للأخرى. وهذا يعني استبعاد قيام حرب باردة جديدة. وقد يحصل خلاف في السياسات والمصالح، وربما يقع تجاذب سياسي حاد، أو قد تشهد العلاقات البينية أزمة عارضة، كل ذلك ممكن، لكنه من خارج تصور استعادة أجواء الحرب الباردة في زمن العولمة.
في توسيع حلف شمال الأطلسي: أوصى الطرفان بحوار يتناول (الخلافات الجدية) التي تفرق بينهما في شأن توسيع الحلف. صحيح أن هذه القضية بمثابة نقطة خلاف مركزية، بيد أن الجانبين ركزا على التفاهم التدريجي من خلال معالجة التفاصيل بما لا يغضب موسكو الحذرة جداً من توسع الحلف نحو الشرق. إنهما يحاولان استعادة أجواء العلاقات الماضية في عهد الرئيس الروسي السابق يلتسين عندما دخلا في شراكة استراتيجية من أجل السلام، وفي اطار حلف شمال الأطلسي. ثمة شراكة جديدة لكن بشروط أفضل لروسيا بعدما أعادت بناء نظامها الاقتصادي، وتحاول استعادة فاعلية منظومتها الدفاعية الاستراتيجية.
في نزع السلاح: برزت إرادة تقليص ترسانتهما النووية إلى أدنى مستوى، وتجدر الاشارة إلى وجود هذا النهج منذ عهد الرئيس الروسي الأسبق جورباتشوف، عندما وقّع الطرفان السوفييتي والأمريكي على اتفاقية (ستارت 1) للحد من مخزون الأسلحة الاستراتيجية، ثم وقّعا لاحقاً (ستارت 2) في نفس الاتجاه. صحيح أن المخزون المتبقي عند الطرفين كافٍ لتدمير العالم، بيد أن نزع السلاح الاستراتيجي صار سياسة دولية واضحة، وإن تكن متعثرة في مراحل معينة بسبب تضارب المصالح والسياسات.
في الدرع المضادة للصواريخ: ظهر اهتمام مشترك بإنشاء نظام دفاعي مشترك مضاد للصواريخ مع أوروبا، تشارك فيه ثلاثة أطراف: روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، هذا من شأنه اخراج هذه القضية المعقدة من دائرة تهديد أمن روسيا، وإشاعة أجواء الثقة مع الاتحاد الأوروبي، الذي لا يريد بالقطع استعادة أجواء الحرب الباردة مع موسكو. وبذلك، ترتاح كل من تشيكيا وبولونيا إلى مصيرهما الأمني بعد التهديد بنصب الدرع الصاروخية فيهما، كما تجد موسكو طريقة لمعالجة هذه القضية بعيداً عن تهديد إيران، أو بعيداً عن سياسة تضخيم الخطر الإيراني كما ترسم السياسة الأمريكية.
في القوات النووية الوسيطة: سيعمل الطرفان على دراسة التهديدات الصاروخية الجديدة، والعثور على وسائل لمواجهتها، أي أنهما ينطلقان من تصور أمني مشترك حيال ما يهدد أمن أوروبا وأمن روسيا معاً، سواء أتت التهديدات من داخل البيت الأوروبي الروسي، أو من خارجه، والمقصود هنا إيران وغيرها.
في أسلحة الدمار الشامل: أكد الإعلان المشترك على العمل لمنع انتشار الأسلحة النووية، وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. إنه ضغط إضافي على إيران وكوريا الشمالية من دون أن يصل بالتأكيد إلى إسرائيل وهو بمثابة تكرار لمواقف روسية أمريكية مشتركة داخل مجلس الأمن الدولي وخارجه.
في الطاقة النووية: تدعم الولايات المتحدة مبادرة روسيا من أجل إنشاء بنية عالمية جديدة لإنتاج الطاقة النووية. أي أن تقنيات إنتاج الطاقة النووية، في اطار انتاج الطاقة البديلة عن النفط والغاز الطبيعي، تبقى منضبطة في الاطار الروسي الأمريكي. هذه استراتيجية للمستقبل بعيداً عن محاولات الدول الناشئة لاكتساب تقنيات إنتاج الطاقة البديلة.
في الإرهاب: اتفق الجانبان على تكثيف التعاون، وخصوصاً عبر تبادل المعلومات، في اطار مكافحة الإرهاب، هذا تكرار لتعاون جرى إقراره سابقاً، ولكن التأكيد عليه من جديد يبدّد مخاوف موسكو من أية محاولات انفصالية داخل الاتحاد الروسي. كما أنه يلبي الطموحات الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول 2001.
في منظمة التجارة العالمية: باتت طريق انضمام روسيا إلى هذه المنظمة مفتوحة وآمنة بعد سلسلة خطوات اقتصادية وسياسية قام بها الطرفان منذ سنوات. إن انضمام روسيا إلى هذه المنظمة في أواخر العام الجاري هو بمثابة إقرار اضافي بالتعامل مع مقتضيات العولمة الاقتصادية المتجسدة مؤسسياً في منظمة التجارة العالمية قبل أي مؤسسة أخرى.
في العلاقة مع إيران: اتفق الجانبان على حصر البرنامج النووي الإيراني بالجانب السلمي، وما يرتبط به من تقنيات وتطبيقات. وبالتالي، سيستمر الضغط الدولي على طهران كي يبقى برنامجها تحت الرقابة، وتحت الضغط السياسي المستمر. نقطة الخلاف المركزية هنا هي في رفض موسكو المضي في الضغط إلى حد استخدام القوة المسلحة، كما ألمحت أوساط أمريكية في السنتين الماضيتين.
لا يؤشر هذا “الإطار الاستراتيجي” الأمريكي الروسي إلى استعادة أجواء الحرب الباردة على الرغم من الخلافات الواضحة بين موسكو وواشنطن حيال قضايا إقليمية ودولية عدة، فضلاً عن رغبة واشنطن في إقصاء أي قوة دولية صاعدة عن قمة النظام العالمي، ومضيّها في الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية الكبرى. في زمن العولمة، ونتائجها المتعددة الأبعاد والمجالات، تزداد صعوبة استعادة أجواء الحرب الباردة.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.