شاهد عيان فى سان فرانسيسكو
وصلت إلى سان فرانسسكو فى ولاية كاليفورنيا لحضور مؤتمر طبى فى اليوم التالى لنجاح باراك أوباما الساحق ليصبح الرئيس الأمريكى القادم وحصل على 345 صوتاً مقابل 195 لمنافسه من المجمع الانتخابى وحوالى 55% من مجموع أصوات الناخبين وهذه النتيجة تعتبر اكتساحاً بالمقاييس الديمقراطية لأن حكاية 90 و95 فى المائة هى مخصوصة للعالم الثالث فقط وليس لها علاقة بالديمقراطية.
و قد شاهدت على الطبيعة الفرحة العارمة للشعب الأمريكى بنتيجة الانتخابات حتى أن أنصار الجمهوريين اعتبروا أن التغيير أصبح ضرورة للولايات المتحدة.
نجاح أوباما الأمريكى من أصل إفريقى هو معجزة بجميع المقاييس. فأمريكا دولة محافظة ومنذ نصف قرن فقط لم يكن يسمح للأمريكى الأسود فى الولايات المتحدة بركوب الأتوبيس مع البيض والجلوس معهم على مائدة واحدة فى مطعم.
كانت كل قياسات الرأى العام تظهر تفوق أوباما فى الأسابيع الأخيرة، ولكن الجميع كان يخاف من أن يقوم المواطن الأبيض بتغيير رأيه خلف الستار لحظة التصويت وخاصة أن هذا حدث سابقاً مع المرشح برادلى كحاكم لإحدى الولايات الكبرى. ولكن المعجزة حدثت فكيف حدث هذا؟
أولاً: كانت التصرفات الحمقاء لليمين الأمريكى الشديد التعصب كارثة على الشعب الأمريكى بدءاً بالحروب ونهاية بخراب الاقتصاد وأدى ذلك إلى رغبة عارمة فى التغيير عند الغالبية من الشعب التى أصبحت تمقت بوش وإدارته، وأصبح يحصل على أقل نسبة تأييد لرئيس أمريكى على مدى تاريخها.
ثانياً: باراك أوباما شخصية نادرة فهو سياسى بارع له رصيد أخلاقى كبير وقدرة فذة على الخطابة والوصول إلى عقل وعواطف الجماهير. وهنا لا ننسى أن أوباما مواطن أمريكى بسيط من أسرة فقيرة وأب كينى مهاجر عاش فى ظروف صعبة مع أمه ثم جدته، ولكنه استطاع فى النهاية أن يدخل أعظم جامعة فى أمريكا والعالم كله وهى جامعة هارفارد وأن يتخرج بتفوق وأن يكون أول دفعته وهو الأسود الفقير، وهذا يعنى أن هذا الشاب فعلاً عبقرى العقل ومنظم فى التفكير ومكافح ومناضل ليتخطى عقبات التعليم الجامعى الأمريكى المكلفة. وهنا لا يجب أن ننسى أن الولايات المتحدة – الدولة الشديدة الرأسمالية والتى يوجد بها نسبة مرتفعة من السكان تحت خط الفقر مقارنة بأوروبا الغربية – تعطى الفرصة للمتفوقين مهما كانوا من الفقراء أو المهاجرين عن طريق المنح والقروض للطلبة ليصلوا إلى أعلى المراتب وبهذا تجتذب جميع العقول ليعملوا فى خدمة الدولة.
ثالثاً: كان لأوباما قدرة خارقة على التنظيم واختيار مجموعة منتقاة من المساعدين وضعوا استراتيجية واضحة وقوية استمرت لمدة عامين بدون خلافات أو مشاكل وقد كان التنظيم من المهارة والقوة بحيث وصل إلى كل أمريكى يمكن أن يعطى صوته لأوباما.
رابعاً: لقد ركزت حملة أوباما منذ سنتين على الولايات المتأرجحة، لأنه من المعروف أن ولايات الساحل الشرقى والساحل الغربى تصوت كلها للديمقراطيين وأن ولايات الوسط والجنوب تصوت للجمهوريين وما يقرر نتيجة الانتخابات هم بعض الولايات المتأرجحة أهمها فلوريدا وأوهايو ونيفادا وبنسلفانيا وكارولينا الشمالية ونيومكسيكو وكلها نجح فيها أوباما بالإضافة إلى بعض معاقل الجمهوريين.
خامساً: استطاع أوباما أن يجمع أموالاً طائلة غير مسبوقة من غير الأغنياء، فالجميع تبرع للحملة حسب قدرته ومعظم الأموال جاءت من الطبقة الوسطى والفقراء ومن مبالغ بسيطة وكان للحملة التزام أخلاقى شديد لم تحدث فيه خلافات أو استقالات بل كانت منظومة وسيمفونية رائعة استمرت حتى آخر لحظة.
سادساً: من المعروف أن نسبة الأمريكيين الذين يدلون أصواتهم فى الانتخابات لا تتعدى 35% من الشعب وتنخفض نسبة التصويت بين الشباب وبين السود والمهاجرين من أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط. واستطاعت حملة أوباما الشديدة التنظيم أن تقنع الملايين من هذه الفئات بتسجيل أسمائهم ليكون لها حق الانتخاب ثم قامت بحملة غير مسبوقة لإقناعهم بالذهاب إلى صناديق الانتخاب وقد قال لى صديق مصرى مهاجر منذ ثلاثين عاماً إن حملة أوباما اتصلت تليفونياً به ثلاث مرات يوم الانتخاب للتأكد من ذهابه وأولاده للإدلاء بأصواتهم. هذه الفئة الجديدة على الساحة الانتخابية الأمريكية غيرت من وجه الانتخابات وأعطت دفعة قوية له وخاصة فى الولايات الحاسمة والتى تتأرجح بين الحزبين الكبيرين. ولى صديق آخر عنده ثلاث فتيات تتراوح أعمارهن بين العشرين والثلاثين ولم يكن لهن اهتمام سابق بالسياسة ولم يسبق أن أدلين بأصواتهن فى أى انتخابات سابقة، لقد استطاعت حملة اوباما أن تجندهن للتبرع والدعاية لأوباما بحماس شديد وليصبحن من أشد المؤيدين له.
سابعاً: يجب أن لا ننسى أن الشعب الأمريكى الذى يصفه العالم كله بأنه بسيط ولا يفهم فى السياسة وأن حفنة من رجال الأعمال والإعلام يؤثرون عليه بشدة ليس دائماً كذلك وأن هذا الشعب أثبت فى الأزمات القدرة على التغيير والالتزام الشديد بمحاربة الفساد ولا أحد ينسى انتخاب روزفلت، وكينيدى ومحاكمة نكسون وفصله من الرئاسة ومحاكمة كلينتون البرلمانية، وفصل وشلح أعداد كبيرة من أعضاء مجلس النواب، وكذلك حكام الولايات بسبب الفساد وذلك دون أى تردد وكذلك تنفيذ أحكام رادعة عليهم. لقد طبقت المعايير الصارمة للأمانة والالتزام من جانب السياسيين الأمريكيين على جميع المستويات بداً من رئيس الجمهورية حتى أصغر رئيس حى، وبالمناسبة جميع المناصب بالانتخابات حتى وظيفة القاضى ورئيس الحى وعمدة المدينة وأعضاء المجلس المحلى وحكام الولايات، لا شيء بالتعيين على الإطلاق إلا مساعدى الرئيس أو مساعدى حاكم الولاية. لك أن تتصور لو طبقت هذه المعايير الأمريكية الصارمة فى الأمانة على بلاد العالم الثالث ومثلاً فى مصر، كم فى المائة ممكن أن ينجوا من الإدانة ودخول السجن من الحكام والسياسيين. يقول البعض تسعون بالمائة ولكن صديقاً لى أعتز برجاحة عقله قال إن الدولة المصرية كلها سوف تدخل السجن لأن ما يفعله كل منهم يدينه بوضوح أمام أى محكمة عادلة.
و حتى الأيام الأخيرة السابقة لانتخابات رئيس الجمهورية كان الخوف يملأ قلوب حملة أوباما من أن تنتصر العنصرية وينجح ماكين بسبب لونه الأبيض ولكن ذلك لم يحدث لأنه ثبت من دراسات أمريكية حديثة أن العنصرية ضد السود ما زالت تمثل جانباً مهماً من تفكير الأمريكيين الذين تخطوا الخامسة والخمسين من العمر، وتمثل جانباً أقل أهمية من 45-50 عاماً، أما تحت الخمسة والأربعين عاماً فلا يشكل اللون أى عائق عند الرجل الأبيض الأمريكى، والمرأة الأمريكية عموماً أقل تعصباً ضد السود من الرجل حتى فى كبار السن، وحيث إن فى هذه الانتخابات بالذات كان الحضور للشباب فيها طاغ فأثر ذلك على تقليل أهمية لون البشرة فى الاختيار.
فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة اختارت كبرى دول العالم رئيساً من أصل أفريقى له مواصفات أخلاقية وقدرات سياسية فذة وشاءت الظروف أن يصبح رئيساً فى أتعس أوقات أمريكا الاقتصادية والعسكرية.
و لكن هل نتوقع من أوباما شيئاً فى الشرق الأوسط؟ فهذا موضوع آخر، لأن الشرق الأوسط ليس ضمن الأولويات الخمس التى أعلنها أوباما وأولها هو انقاذ الاقتصاد الأمريكى وجميعها خاصة بالشئون الداخلية بما فى ذلك الحرب العراقية والأفغانية واللتان تعتبرا الآن أموراً داخلية. سوف يركز الرئيس الجديد على الاقتصاد الأمريكى وهو أمر سوف يأخذ وقتاً طويلاً وسوف تقوم الدول بتنظيم الاقتصاد الحر ليكون حراً ولكن بدون مضاربات وهمية لأوراق غير حقيقية هى التى أدت إلى انهيار البورصة الأمريكية. الشيء الآخر أنه سوف ينهى حرب العراق سريعاً وسوف يحاول إيجاد حل سياسى لمشكلة أفغانستان قد تلعب فيها العسكرية دوراً ولكنه لن يكون الدور الأساسى. وسوف يسعى إلى احتواء إيران وتهدئة العلاقة وتنقيتها طالما استمرت إيران فى استخدام المفاعلات الذرية لأغراض سلمية. أما الشرق الأوسط فلا أعتقد أنه سوف يقترب منه فى العامين الأولين وربما المدة الأولى من الرئاسة لعلمه أن مشاكله شائكة وأن به معضلتين شديدتى التعقيد هما إسرائيل والبترول. وكما يعلم الجميع فإن مدير البيت الأبيض وهو الشخصية الأهم والأكثر تأثيراً على الرئيس هو أمريكى إسرائيلى مزدوج الجنسية ووالده من السياسيين الإسرائيليين المتطرفين والذى أعلن تصريحاً عدائياً للعرب ولكن إبنه قدم فى أمريكا اعتذاراً للعرب والفلسطينيين وأعلن أن هذا التصريح لا يمثل الإدارة الأمريكية الجديدة. والمدير الجديد للبيت الأبيض سياسى أمريكى محنك نجح ثلاث دورات فى الكونجرس الأمريكى ولا يزال عضواً به وترتيبه الرابع من ناحية الأهمية فى أعضاء الكونجرس من الديمقراطيين وهو على علم وثيق بمشكلة الشرق الأوسط.
فى تقديرى لن تتقدم الولايات المتحدة بأى محاولات غير بعض الكلمات الطيبة نحو المشكلة الفلسطينية لفترة طويلة. أما بالنسبة لمصر فاحتمال تخفيض المعونة الأمريكية كبير جداً ليس بسبب سوء تفاهم مصرى أمريكى وإنما بسبب مبدأ عام تتخذه الدولة فى تخفيض الإنفاق الخارجى.
الشيء الغير معروف ما هو موقف أوباما من الدول الدكتاتورية والتى لا تلتزم بمواثيق حقوق الإنسان وتتدخل فى شؤون القضاء وتزور الانتخابات وتضرب وتسجن الشعب بدون وجه حق مثل مصر والسعودية؟
لقد أعلن أوباما فى مناظرته الثانية أن بوش أخطأ بدفع عشرة بلايين دولار إلى دكتاتور اسمه مشرف فخسر الأموال وخسر الشعب الباكستانى وكان الأحرى به أن يدفعها للشعب الباكستانى ليكسبه إلى جانبه وبالتالى يكسب الحرب سياسياً وعسكرياً. إن الموقف فى مصر مختلف، من ناحية أوباما شخصية عندها كثير من الأخلاق وهو سيقوم بتفكيك معتقل جوانتانامو وعمل تغييرات فى القوانين التى أرساها بوش للتجسس وتقييد حريات الأمريكيين وهو من ناحية المبدأ لا يمكن أن يقوم بتأييد واضح وصريح لنظام دكتاتورى لا يحترم حقوق الإنسان فى أى مكان لكن من ناحية أخرى فإن اللوبى الإسرائيلى سوف يدافع عن النظام المصرى لأنه الأكثر مناسبة لإسرائيل وسياستها. وهنا سوف يتخذ أوباما موقفاً غير واضح حتى الآن ولكن فى الأغلب لن يكون موقفاً غير أخلاقى وشديد العنصرية والانتهازية مثل إدارة بوش، وسوف يكون لهيلارى كلينتون وزيرة الخارجية ولمدير البيت الأبيض رأى كبير فى التصرف حيال مصر.
و أخيراً فإن الولايات المتحدة فى عصر أوباما بالتأكيد لن تكون أكثر سوءًا من عصر بوش. وفى النهاية لا بد أن نحيى الشعب الأمريكى الذى انتخب أمريكياً أسود كان أبوه مهاجراً، وهذا شيء رائع لا يمكن أن يحدث فى أى مكان آخر فى العالم.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.