Iraq Security Agreement: a Second Invasion

<--

بدء العد العكسي لتقسيم العراق

الاتفاقية الأمنية: الاجتياح الثاني

ثلاثة أسئلة كبرى دفعة واحدة أثارها الاتفاق الأمني الذي وقعته الحكومتان العراقية والأميركية الأسبوع الماضي:

1 ­ ما معنى هذا الاتفاق بالنسبة إلى مستقبل العراق, وكيف ستتفاعل معه القوى السياسية العراقية المختلفة؟

2­ أي مضاعفات محتملة له على الدول الإقليمية الأخرى, خصوصاً سوريا وإيران, وعلى نظام €أو بالأحرى لنظام الشرق الاوسط ككل€؟

3­ كيف سيؤثر هذا الاتفاق على السياسة الأميركية إزاء كل من العراق وباقي أنحاء المنطقة.

لنبدأ مع السؤال الأول.

أطرف تعليق على الاتفاق جاء في فتوى هيئة علماء المسلمين العراقية, قالت: «يجب رفض هذا الاتفاق حتى ولو وقّعه أمير المؤمنين». وجه الظرف أن أمير المؤمنين اختفى منذ نيف وقرن بعد أن ألغت تركيا الكمالية منصب الخلافة الإسلامية في العام 1924 وأحلّت مكانه موقع الخلفاء العلمانيين. لكن الهيئة أرادت بالطبع دمج العقائد الأيديولوجية بالتاريخ السياسي لتشدد على قوة رفضها لهذه المعاهدة «التي تتم بين مسلم وبين غير مسلم», على حد تعبيرها.

لكن, ثمة بُعد جدي في هذا الظرف التشبيهي. فالاعتراض على هذه المعاهدة, التي تكرس الاحتلال في صيغ قانونية, يأتي من أطراف عراقية عدة في مقدمها ليس فقط أجنحة المقاومة العراقية المتعددة, بل أيضاً التيار الصدري وقطاعات واسعة من الشارع السياسي العراقي. بعض هذه الأطراف يرفض المعاهدة جملة وتفصيلا, وبعضها الآخر يسعى إلى تعديلها, فيما أطراف ثالثة وضعت في الاعتبار المحاسبات التاريخية اللاحقة فقررت النأي بنفسها عن كل النقاشات حول هذه المسألة.

هذه التطورات في بلد خاضع إلى الاحتلال قد يبدو غريبا, خصوصاً حين يقارن بما جرى بين الولايات المتحدة ودول أخرى عريقة كألمانيا واليابان. فبعد الهزيمة التي تلقاها هذان البلدان في الحرب العالمية الثانية, استسلما بالكامل وتركا أميركا لتفعل ما يحلو لها بمجتمعهما السياسي والمدني. وهكذا تم حل الجيوش الألمانية واليابانية ومعها جهاز الدولة والأحزاب, وأعيد تركيب كل شيء من الصفر وفق الخطوط العامة التي وضعتها واشنطن.

الخطوات نفسها تم تطبيقها في العراق, لكنها لم تنجح. لماذا؟ لأن أميركا دمرّت الدولة العراقية لكنها لم تلحق الهزيمة بالمجتمع العراقي نفسه, في حين ان الدمار الشامل لحق بالمجتمعين الياباني €هيروشيما وناكازاكي€ والألماني €مسح المدن عن وجه الأرض بالغارات الجوية€ قبل انهيار الدولتين فيهما. صحيح أن قوات الاحتلال عمدت لاحقاً إلى تفتيت المجتمع العراقي إلى طوائف وإثنيات, لكن هذا لم يستطع منع بروز مقاومات مسلحة عراقية ترافقت مع ممانعات سياسية­ فكرية قوية للاحتلال في قطاعات عدة من المجتمع. الدولة العراقية سقطت, لكن المجتمع €على علاّته الأهلي€ صمد ومانع وقاوم.

هذه الحقيقة لها استتباعاتها البديهية. فحين تقرر الولايات المتحدة أن عليها الجلاء, على الأقل من البؤر المدنية الكثيفة, فهذا يعني أنها فقدت الأمل بإمكان اخضاع العراق إلى مشيئتها, مما قد يضطرها لاحقاً إلى اغلاق ما ستتركه من قواعد عسكرية بعد العام 2011. وحين يحدث ذلك, سيصبح أبطال المعاهدة العراقيين الحاليين خونة, ورافضيها أبطال المرحلة المقبلة.

بكلمات أوضح: من يرفض اليوم سيربح غداً, ومن يقبل اليوم سيخسر اليوم وغداً. وهذه معادلة باتت واضحة ليس الآن بل منذ اللحظة التي تحولت فيها مسألة الانسحاب من العراق إلى قضية داخلية أميركية, يتنافس فيها الديمقراطيون والجمهوريون على من سيكون له قصب السبق في الحد من الخسائر البشرية والمالية الأميركية الفادحة في العراق.

أجل. هيئة علماء المسلمين على حق حين قالت انها سترفض المعاهدة حتى ولو قبلها أمير المؤمنين. لكنها ربما نسيت أن أمير المؤمنين لو كان موجوداً, لكان أذكى بكثير من أن يوقّع على معاهدة لا تستطيع حتى صاحبتها الدولة العظمى أميركا ضمان إقرارها أو استمرارها. وهذه الحقيقة تزداد توثقاً حين نضع في الاعتبار أن المضامين الحقيقية للاتفاق قد تسفر ليس عن استقلال العراق ووحدة أراضيه, بل عن الفقدان التام للاستقلال ولوحدة الأراضي.

كيف؟

لقد ظن الكثيرون أن مشروع تقسيم العراق صفحة وطويت بعد أن رفضته إدارة بوش خوفاً من بلقنة تؤدي إلى «فرسنة» من فرس بلاد الرافدين, وبعد أن اعتبر تقرير بيكر­ هاميلتون التقسيم «غير أخلاقي وغير واقعي». وجاءت الأحداث الأمنية في الأشهر القليلة الماضية, والتي حقق فيها الجيشان الأميركي والعراقي بعض النجاحات النسبية في فرض الأمن خصوصاً في البصرة وأحياء في بغداد, لتعزز هذا الظن.

بيد أن كل ذلك أثبت لاحقاً أنه سراب. فالمشروع لا يزال حياً ويركن في دهاليز واشنطن ومراكز أبحاثها الكبرى التي تشكّل العقل المدبر الفعلي لكل السياسات الخارجية الأميركية. والعمل ما زال جارياً على قدم وساق لاختبار كل السيناريوهات المتعلقة بمسألة التقسيم وما بعدها. ثم جاء تعيين جو بايدن مرشحاً لنيابة الرئيس عن الديمقراطيين, والذي يعتبر بحق «بطل تقسيم العراق», ليؤكد أكثر أن المشروع لم يغادر مطابخ واشنطن بعد.

آخر الدلائل على ذلك كان التقرير الخطير الذي أعدته مؤسسة بروكينغز ذات النفوذ الكبير على أصحاب القرار الأميركيين والذي جاء عنوانه ليدل بقوة على مضمونه: «التقسيم الليّن او السهل للعراق».

التقرير جهد منذ البداية لإثبات نقطة جوهرية: لا ضرورة للخوف من بلقنة العراق لأن البلقنة وقعت بالفعل, بعد أن أدت الحرب الأهلية إلى خلق واقع ديموغرافي جديد رصدته منظمة الهجرة الدولية التي قالت في تقرير لها صدر اخيراً أن العرب الشيعة يقومون بالنزوح من وسط العراق الى الجنوب بينما يقوم العرب السنّة بالنزوح من الجنوب الى الوسط وخصوصاً إلى محافظة الانبار. وتقول الدراسة بأن هذه الظاهرة حوّلت العراق بالتدريج إلى بلقان جديد.

وبعد تصفية الحساب مع مسألة البلقنة هذه تصبح فكرة التقسيم سهلة وممكنة, وهي يجب أن تتضمن برأي المؤسسة العناصر الآتية:

­ رسم الحدود بين الأقاليم الثلاثة الكردية والسنية والشيعية وتذليل العقبة الخاصة بالحقيقة بأن الزيجات المختلطة بين أبناء الطوائف المختلفة تجعل من عملية الرسم على أساس جغرافي وليس طائفياً أمراً صعباً. لا مشكلة في هذا الشأن في المحافظات الواقعة جنوب العراق لان معظم قاطنيها من العرب الشيعة, إلا أن المعضلة الحقيقة موجودة في المحافظات والمدن الرئيسة مثل بغداد والموصل وكركوك.

­ تنتقد بروكينغز تقرير بيكر­ هاميلتون لأنه دعا إلى «تدويل» بغداد, وتقول إن العاصمة يجب أن تقسم أسوة بغيرها من المناطق.

­ العمل على تحقيق توزيع عادل بين الدول الثلاث الجديدة للثروة النفطية لأن معظم أحداث الاقتتال الداخلي اندلعت في أعقاب الاستفتاء على الدستور العراقي في آب €اغسطس€ 2005 نظراً لأن الدستور ترك عملية توزيع الثروة النفطية أمراً غامضاً وعائماً.

­ الدعوة إلى إشراف الجامعة العربية والأمم المتحدة, لا الولايات المتحدة, على عملية التقسيم, شرط أن يتم ذلك بحراسة 300 ألف جندي. ومن أين يجب أن تأتي معظم هذه القوات؟ من أميركا بالطبع.

وهنا يطل الاتفاق الأمني برأسه ليكشف عن احتمال كونه خريطة طريق لتثبيت هذا التقسيم. فهو ينص على انسحاب القوات الأميركية قبل نهاية شهر حزيران €يونيو€ 2009 إلى قواعد خارج المدن العراقية, على أن يتم الانسحاب الكامل قبل 31 كانون الثاني €يناير€ 2011. بيد أن كل الخبراء والمحللين يعرفون أن الجيش العراقي لن يكون قادراً لا الآن ولا بعد خمس سنوات على ضبط الأمن في البلاد, خصوصاً وأنه بُني على أسس مذهبية­ طائفية محضة تم في إطارها استبعاد قطاعات واسعة من الشعب العراقي, هذا إضافة إلى وجود 100 ألف عسكري من قوات البيشمركة الكردية خارج نطاق سيطرة الدولة المركزية العراقية.

هذا الواقع يفرز احتمالين بعد بدء الانسحابات أو إعادة الانتشار الاميركية: إما أن الحكومة العراقية الطائفية الحالية ستكون مضطرة باستمرار إلى طلب تدخل القوات الأميركية للحفاظ على البقاء, أو ان القوات الاميركية ستعمل من تلقاء نفسها على الإشراف على تقسيم العراق نهائياً. وهذا الاحتمال الاخير يبدو قوياً بعد أن قطع الطائفيون الجنوبيون شوطاً لابأس به في اتجاه تحويل محافظة البصرة إلى «اقليم مستقل» أسوة بإقليم كردستان الشمالي, وبعد أن أُنجزت عمليات. «التطهير» المذهبي­الطائفي في العديد من المناطق العراقية.

هذا عن السؤال الأول. أما بالنسبة إلى المضاعفات الإقليمية للاتفاق, فمن الواضح أن سوريا وإيران ستكونان المعنيتان أكثر من غيرهما به.

سوريا كانت السباقة إلى التحذير من مخاطر هذه المعاهدة, حين قال الرئيس بشار الأسد ان هذه الأخيرة «ستؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة», وحين ذكر وزير الإعلام السوري محسن بلال ان الاتفاق «يعتبر مكافأة للمحتلين على احتلالهم» ويشكل تهديدا للدول المجاورة.

الموقف الإيراني لم يكن أقل حدة. فقد اتهم المحافظون الحكومة العراقية بـ«الاستسلام لأميركا» محذرين من مخاطر المعاهدة على كل من العراق وإيران وباقي أنحاء المنطقة. بيد أن رئيس هيئة القضاة الإيرانيين آيه الله محمود شهرودي, المقرب من مرشد الثورة علي خامنئي, فاجأ الجميع حين اتخذ موقفاً إيجابياً من المعاهدة ممتدحاً «جهود الحكومة العراقية طوال الأشهر الماضية لتعديلها وفق المصالح العراقية».

لماذا شذ الشهرودي, ومعه خامنئي, عن بقية السرب الإيراني المعارض للمعاهدة؟ لسبب يتيم على ما يبدو: إبقاء الجسور مع حكومة المالكي المقربة من طهران, ثم العمل بعد ذلك على وضع العصي في طريق تنفيذ المعاهدة. ثم ان إيران كانت مضطرة إلى اتخاذ هذا الموقف بعد أن قام رجل الدين الشيعي القوي آية الله السيستاني بمحض مباركته للاتفاق رغم أنه اشترط موافقة غالبية مريحة في البرلمان العراقي له تصويت البرلمان سيتم في 24 تشرين الثاني €نوفمبر€ الحالي. وبطبيعة الحال لم ترد طهران أن تبدو على طرفي نقيض مع السيستاني الذي يمتلك نفوذاً هائلاً على شيعة العراق بصفته مرجعية دينية عليا لهم. ثم كان لدى طهران اعتبار آخر: رغبتها في عدم استعداء الرئيس الأميركي المنتخب أوباما, الذي وعد بإجراء محادثات مباشرة معها تتناول, من ضمن ما تتناول, «مصالحها الأمنية المشروعة» في العراق والمنطقة.

لكن, ورغم ذلك, كله تشعر طهران بقلق عميق من مضاعفات هذه الاتفاقية لسببين:

الأول, أنها ستحرر 150 ألف جندي من وحول المستنقع العراقي وتجعلها جاهزة ثانية لأي تدخل عسكري محتمل جديد في الشرق الأوسط. وبالطبع, لم تنس طهران بعد ما قاله الجنرال الأميركي المتقاعد ويسلي كلارك في أواخر 2001: حين زرت البنتاغون عشية غزو العراق, فوجئت بقائد عسكري كبير يقول لي أن غزو العراق ليس سوى المرحلة الأولى من خطة لخمس سنوات ستتضمن أيضاً احتلال سوريا ولبنان وليبيا وإيران والصومال والسودان.

والثاني, أن الولايات المتحدة ستكون بعد «إعادة نشر قواتها» في العراق, في موقع اكثر قوة بكثير للتأثير على كل مجرى التطورات في الشرق الأوسط على الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية كافة, هذا في حين أنها الآن تعتبر رهينة فعلية في يد الإيرانيين والسوريين.

هذه النقطة الأخيرة تقودنا إلى فتح ملف سؤالنا الثالث: كيفية تأثير هذا الاتفاق على السياسة الأميركية إزاء كل من العراق وباقي أنحاء الشرق الأوسط.

الأمر هنا سيعتمد على النهج الذي سيختاره الرئيس أوباما وفريق عمله الديمقراطي: حل عراقي لأزمات الشرق الاوسط, أم حل شرق أوسطي لأزمة العراق؟

هذان الخياران تبلورا في الولايات المتحدة خلال السنة الأخيرة من ولاية بوش, ثم تأكدا في البيانات التي ادلى بها الرئيس بوش €ومعه المرشح الجمهوري ماكين€ والمرشحان الديمقراطيان أوباما وكلينتون, بمناسبة الذكرى الخامسة لحرب العراق.

خيار «العراق أولاً» كان المفَضل لدى بوش وماكين. وهو يرتكز على دعامتين نظريتين اثنتين: الاولى, «أن النصر العسكري الاستراتيجي» ممكن في بلاد الرافدين, كما يزعم الرئيس بوش, وكما أثبتت تجربة «الموجة العسكرية»( SURGE) هذه التي نجح خلالها الجنرال بيتريوس في خفض الاضطراب الأمني في بغداد وإقليم الانبار. والثانية, انه حتى لو تعذَر تحقيق نصر سريع, لاتستطيع الولايات المتحدة ببساطة حزم حقائبها والرحيل عن العراق, لان ذلك سيقدم لإيران و«القاعدة» ومنافسي اميركا الدوليين €الصين أساساً وروسيا, وإلى حد ما أوروبا€ مكاسب استراتيجية دسمة على طبق من الفضة البراقة. اميركا, وفق وجهة النظر هذه, يجب ان تواصل القتال حتى النصر النهائي في العراق, ومن ثم تواصل مشروعها الكبير لإعادة صياغة الشرق الاوسط الكبير انطلاقاً من بغداد.

اما خيار الحل الأوسطي لأزمة العراق, الذي يتبناه اوباما, فهو يرى أن حرب العراق لم تكن لا ضرورية ولا مبررة, وهي أثبتت حدود ومحدودية القدرة العسكرية الاميركية على تغيير السياسات على الأرض. ولذا فهو يدعو إلى جهد دبلوماسي دولي­ شرق اوسطي ضخم لتسهيل الحلول الآيلة إلى وقف التدهور في العراق. وهذا يتطلب في الدرجة الاولى حواراً جدياً مع إيران وسوريا, ومن ورائهما في الكواليس الصين وروسيا, وفق ما اقترحت مبادرة بيكر­ هاميلتون. هذا الخيار لا يعني أن أوباما يؤيد انسحاباً اميركياً سريعاً من العراق €رغم كل بياناته في هذا الخصوص€, او حتى انسحاباً كاملاً منه. فكلامه حول هذا الامر مجرد بلاغة لفظية انتخابية, سرعان ما ستبددها مستلزمات السلطة الواقعية. بل انه بدا واضحاً ان أوباما, الذي عارض من البداية الحرب العراقية, شرع في تغيير مواقفه القاطعة بعد أن اقترب من احتمال وصوله إلى البيت الأبيض. قال في خطابه بمناسبة الذكرى الخامسة للغزو: سيكون علينا القيام بتعديلات تكتيكية, وبأن نستمع إلى قادتنا العسكريين على الأرض, وبان نضمن أن مصالحنا بعراق مستقر تتحقق وستجعل قواتنا هناك اكثر امنا».

والخلاصة؟

إنها واضحة, أو يفترض أن تكون واضحة:

الاتفاق الأمني العراقي­ الأميركي سيغيّر لوحة الصراع في العراق في شكل جذري. وفي حال سارت الرياح كما تشتهي السفن الأميركية, فسينقلب وضع العراق من ورطة لأميركا إلى ورطات لكل دول المنطقة, وبخاصة منها احتمالات تقسيم بلاد الرافدين.

والعد العكسي لهذا التطور المحتمل بدأ بالفعل.

About this publication