Proceedings of the Next Twenty Years!

Edited by Louis Standish

<--

نصر شمالي ـ عندما نطالع ما يتيسّر الاطلاع عليه من الاستراتيجية الأميركية العالمية للقرن الحادي والعشرين نجدها تتحدّث عن الثلث الأول من القرن بلغة الوقائع والأرقام والمواقع والأسماء المحدّدة، أمّا الثلث الثاني فتتحدّث عنه بلغة التوقّعات والاحتمالات شبه المحدّدة، وأمّا الثالث فبلغة التمنيات والآمال العريضة العامة، وبالإجمال وفي جميع الحالات تظهر بوضوح الرؤية المتكاملة لواضعي الاستراتيجية عن قرن عالمي ينبغي أن يكون أميركياً، وقد رأينا وعشنا بالفعل، في أواسط عقد التسعينات الماضي، ذلك التوجّه الأميركي القوي والنشط في جميع بلدان العالم تقريباً، ومنها بلادنا، لتحقيق ما يمكن تلخيصه دون مبالغة بأمركة العالم! لقد كانت واشنطن حينئذ منتشية بانهيار الاتحاد السوفييتي، وتعتقد أنّها أصبحت مطلقة اليدّ في الشؤون الدولية،غير أنّها كانت في الوقت نفسه تنظر بقلق شديد إلى استفحال أزمات النظام الرأسمالي العالمي الربوي الذي تقوده، وبالطبع هي اعتقدت بكثير من الثقة أنّ زوال الاتحاد السوفييتي سوف يمكّنها من معالجة أزمات الرأسمالية على حساب الأمم المستضعفة، وسوف يمكّنها من صياغة عالم “معولم”، بمعنى “مؤمرك”، تحكمه طغمة مالية ليس لها اسم ولا عنوان، ولا تملك ذرّة من ضمير أو شفقة أو رحمة!

ما الذي جعل الأزمة تنفجر؟

إنّ أوّل ما يجب الانطلاق منه، عند الإشارة إلى وقائع السنوات العشرين القادمة في الاستراتيجية الدولية الأميركية، هو أنّ هذه الوقائع تتعلّق بأزمة النظام العالمي عموماً، فالولايات المتحدة مركز الأزمة باعتبارها مركز النظام العالمي، لكنّها ليست وحدها سبب الأزمة و ميدانها وإن برزت فيها قبل غيرها وأكثر من غيرها، كما أنّ الأعراض الحادة للأزمة لم تظهر في الولايات المتحدة هذا العام 2008، بل ظهرت بالحدّة نفسها في العام 1996، حيث بلغت خسائر شركة “فورد” على سبيل المثال ستة مليارات دولار في ذلك العام، فكان التعتيم على مثل هذه الخسائر ريثما يبدأ العمل باستراتيجية القرن الحادي والعشرين، التي اكتملت صياغتها على أيدي المحافظين الجدد في العام 1996، أمّا الذي جعل الأزمة تتفاقم وتتسع وتنفجر اليوم فهو الفشل العام الذريع في تنفيذ الاستراتيجية الذي بدأ بالفشل في إحكام السيطرة على العراق، وهي السيطرة “المفتاح” التي لا يمكن الدخول إلى القرن الأميركي/الأطلسي من دونها!

المخزون ينحدر والاستهلاك يرتفع!

تقول الاستراتيجية الأميركية أنّ مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة وأوروبا على حدّ سواء تتوضع في الشرق الأوسط الأكبر، حيث يزداد اعتماد الدول الصناعية على اقتصاد عالمي تغذّيه صادرات النفط الآتية من الشرق الأوسط، وقد أشارت التقديرات الأميركية إلى أنّ الاستهلاك العالمي سوف يرتفع من حوالي 82 مليون برميل في اليوم عام 2005 إلى حوالي 90 مليون برميل عام 2010، إلى حوالي 99 مليون عام 2015، إلى حوالي 109 مليون عام 2020، إلى حوالي 119 مليون عام 2025! وتوقعت التقديرات أن يزيد إنتاج النفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (حسب مصطلحاتهم!) إلى حوالي 54 مليون برميل عام 2025، لتصبح نسبته من الإنتاج العالمي الإجمالي حوالي 43 في المائة نهاية الربع الأول من هذا القرن، أمّا في العام 2030 فسوف ترتفع نسبته من الإنتاج العالمي إلى حوالي 55 في المائة! والمذهل في هذه المسألة أنّه، بينما الاستهلاك في حالة ارتفاع وازدياد فإنّ مخزون النفط العالمي في حالة انحدار وتناقص، غير أنّ الاحتكاريين النهابين لا يأبهون سوى لمصالحهم الضيقة، ويسعون إلى الاستئثار بما تبقى من النفط، وإلى استهلاكه الفاحش على طريقتهم، وليكن بعد ذلك الطوفان!

الفشل العسكري والأزمة العالمية

كانت وزارة الطاقة الأميركية قد توقعت أن تصل صادرات النفط من دول الخليج العربي وحدها (تلبية لاحتياجات الاستهلاك المتعاظمة وليس بسبب زيادة الاحتياطي!) إلى حوالي 36 مليون برميل عام 2025، أي إلى نسبة 37 في المائة من إجمالي الصادرات العالمية، وأنّ العراق سوف ينتج لوحده ما بين 10 و 15 مليون برميل يومياً، الأمر الذي يجعل عملية احتلال العراق والسيطرة عليه مفهومة تماماً، طمعاً بثروته النفطية الهائلة، حيث يقدّر مخزونه الإجمالي بحوالي 450 مليار برميل، ومن جهة أخرى فإنّ احتلاله والسيطرة على أرضه ونفطه عملية “مفتاحية” تمكّن الأميركيين من السيطرة والهيمنة الدولية، ومن التأسيس الفعلي لقرن أميركي، وبناء على ذلك تصبح مفهومة هذه النتائج الكارثية للفشل في تحقيق السيطرة على العراق، المتمثلة بهذه الأزمة العالمية وخاصة الأميركية!

كلمة السرّ السحرية المفتاحية!

لقد نجحوا في التعتيم على مظاهر الأزمة التي بدأت تبرز منذ أواسط التسعينات، على أساس أن تتم معالجتها قبل انفجارها، باحتلال العراق وبما يترتّب على احتلاله من هيمنة دولية أشدّ، وبالسيطرة على مخزونه من النفط، والوصول بسرعة وتباعاً إلى إنتاج 15 مليون برميل، ثمّ أكثر فأكثر، الأمر الذي سيجعل نفقات الحرب لا تستحق الذكر! غير أنّ تقديراتهم انقلبت رأساً على عقب عندما عجزوا عن المحافظة على الإنتاج العراقي من النفط في الحدود التي كان عليها أثناء الحصار الطويل المحكم، وهي مليون وربع المليون برميل تقريباً! لقد كانوا على ثقة تامة من أنهم سيرفعون حجم الإنتاج إلى ثلاثة ملايين برميل خلال الأشهر القليلة التي تلت الاحتلال، وأنهم سيرفعونه إلى خمسة ملايين برميل في العام التالي، وهكذا! كان العراق “كلمة السرّ” السحرية المفتاحية في مشروعهم الشيطاني العالمي كلّه! لكنّ الشعب العراقي العظيم لم يمكّنهم من إحراز أيّ تقدّم في هذا الاتجاه، فأنقذ العالم من الأخطار والكوارث الماحقة التي كانت ستترتب على نجاح برنامجهم، ووضعهم هم في دائرة الخطر وعلى حافة الكارثة، وإن كان الثمن الذي دفعه فادحاً جداً!

الدمار الشامل الذي ما بعده دمار!

إنّ وقائع الثلث الأول من القرن الحادي والعشرين، كما رأينا، نفطية بالدرجة الأولى، وهي الأساس الذي تتفرع عنه الوقائع الأخرى مهما بلغت أهميتها، ولذلك كان طبيعياً أن تصبح بلادنا جبهة الحرب الأولى في هذا العالم الذي يقوده المجرمون، بكلّ ما يعنيه ذلك من مآسي تحلّ بنا على مدار الساعة، وبالطبع نحن لا نملك سوى الاستبسال في مواجهة هذه المآسي والتغلّب عليها، فذلك قدرنا الذي لا مفرّ منه، وإذا قدّر لنا أن ننجح في هذه المواجهة المصيرية الهائلة، وأن ننهض من كبوتنا، فإنّ أول ما ينبغي الاهتمام به هو العمل مع الشرفاء في هذا العالم لترشيد استهلاك النفط، فهذه المادة النبيلة هي دماء الحياة المعاصرة وعصبها، وهي مادة غير قابلة للتجدّد، وفي حال استمرار استهلاكها الوحشي على الطريقة الأميركية فسوف تنضب قبل نهاية هذا القرن، وربّما قبل الوصول إلى بدائلها التي لم يتبلور أيّ منها بعد، وتلك هي الكارثة الكبرى التي ما بعدها كارثة، والدمار الشامل الذي ما بعده دمار!

كلنا شركاء

About this publication