هذا الحفل الاسطوري لتنصيب الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية باراك أوباما, يعكس رغبة الأمريكيين في بدء مرحلة جديدة لبلادهم, بعد أن فقدت صورتها التقليدية كبلد ديمقراطي ينعم مواطنوه بالرخاء والحرية, وينحاز للعدل والسلام وحق تقرير المصير.
أوباما في حفل أداء القسم التقط الشعور الأمريكي العام الذي أوصله للمكتب البيضاوي, وحاول إحياء الحلم الأمريكي مرة أخري, عندما تحدث عن ميلاد عصر جديد من المسئولية, وعندما أعطي معني جديدا لرئيس من أصل إفريقي, كان لا يمكن لوالده هو وغيره, قبل أقل من ستين عاما, بسبب لون بشرته ارتياد مطعم محلي, وهو الآن يقف لاداء قسم الرئاسة الأمريكية, وهو أقدس قسم, كما وصفه.
يدخل باراك أوباما وإدارته الديمقراطية البيت الأبيض علي أنقاض رئاسة إدارة أمريكية يمينية, أفقدت المواطن الأمريكي أمله بالمستقبل, وأضاعت كل القيم والمثل الأمريكية, وبعثرت اصدقاء أمريكا في الخارج وأعادت صورة اليانكي الأمريكي في أذهان شعوب العالم, وايجاد حالة عداء, بل وكراهية للسياسة الخارجية الأمريكية, وبإدراك كبير لما وصلت إليه الأوضاع في ظل الإدارة القديمة, كانت قرارات الإدارة الجديدة باعثة للأمل في عصر أمريكي جديد يعي مسئولية أمريكا نحو مواطنيها وتجاه شعوب ودول العالم, لقد أمر أوباما بإغلاق معتقل جوانتانامو, وسجون وكالة الاستخبارات الأمريكية في الخارج, وألغي التعذيب فيها, وأوقف مراقبة الهواتف والاتصالات, وكل الإجراءات التي كانت تقيد وتنتهك حريات المواطن الأمريكي, وطلب من قادته العسكريين إعداد ترتيبات اضافية ومضاعفة لسحب القوات الأمريكية من العراق, بطريقة مسئولة.
ووسط انشغاله بالأزمة الاقتصادية والمالية العالمية, بتأثيرها الكبير علي الاقتصاد والمواطن الأمريكي, كانت مفاجأة أوباما الكبري بزيارته لمقر وزارة الخارجية الأمريكية, وتوازي اهتمامه بقضايا الداخل بالقضايا الخارجية فلقد تقدمت قضية السلام في منطقة الشرق الأوسط والصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي, وأصبحت محل اهتمام لم يكن متوقعا في ترتيب الأولويات في السياسة الخارجية الأمريكية, تساوي هم الانسحاب من العراق والوضع في أفغانستان بهم إنهاء الصراع في الشرق الأوسط, والوصول لتسوية سلمية وعادلة في المنطقة.
تفهم أوباما أن السلام في منطقة الشرق الأوسط يقتضي تحركا سريعا, وأنه لن يتم إلا بعودة الحقوق للشعب الفلسطيني, وقيام دولته, وجاء تعيين الدبلوماسي القديم جورج ميتشيل صاحب خبرة المفاوضات وإحلال السلام في إيرلندا, إدراكا بأن طريق التسوية لن يكون سهلا, ولهذا سيكون من الطبيعي أن تطلب الإدارة الأمريكية مساعدة القوي الاقليمية, وعلي رأسها مصر في دعم تحركها الساعي لمواصلة عملية السلام وإعادة الاستقرار في المنطقة.لهذا ثمن أوباما في خطابه وتصريحاته في مقر الخارجية الأمريكية, أمام الوزيرة الجديدة هيلاري كلينتون, دور مصر في عملية وقف إطلاق النار في غزة, وأعرب عن تقديره للدور المهم الذي لعبته مصر للتوصل إلي اتفاقية وقف اطلاق النار, وفي اتصاله بالرئيس مبارك أعرب الرئيس الأمريكي عن أن بلاده تتطلع للدور القيادي المصري وللشراكة معها لوضع أسس لسلام شامل. يري الأمريكيون أن تحرك المبعوث الخاص الجديد للمنطقة لن يبدأ إلا بعد إجراء الانتخابات الإسرائيلية في فبراير المقبل, وأن رئيس وزراء إسرائيل المنتخب لن يدخل مكتبه إلا في نهاية مارس, وهو الذي سيزور واشنطن في أوائل شهر ابريل, ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية
ستسعي خلال الفترة الحالية, ودون انتظار لدعم الجهد المصري لتثبيت وقف اطلاق النار والوصول إلي تهدئة طويلة ودعم جهود مصر في ايصال المساعدات الغذائية والدوائية لابناء غزة واستكمال الانسحاب الإسرائيلي من القطاع, وفتح المعابر وإعادة العمل باتفاقية2005 الخاصة بمعبر رفح, ودعم الدعوة المصرية, وحضور وزيرة الخارجية الأمريكية للمؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة, مع تأييد المساعي المصرية لإعادة الوفاق الفلسطيني, الساعي لتوحيد الموقف الوطني الفلسطيني في إطار سلطة وطنية واحدة وموحدة, تصبح مسئولة عن كل الاتفاقيات والالتزامات الخاصة بتثبيت وقف إطلاق النار, واستعادة الأمن في مختلف مناطق السلطة, وتولي جهود الإعمار وتوزيع المساعدات, باشراف دولي, يميل الجميع أن تتولاه احدي هيئات الأمم المتحدة.
وبرغم وصف أوباما للمبادرة العربية للسلام بأنها تتضمن مبادرات بناءة, يمكن أن تساعد علي تقدم مساعي السلام, إلا أن بعض الفهم الأمريكي لطبيعة أوضاع المنطقة قد يحتاج لجهد دبلوماسي مصري وعربي لتوضيحه, ففي حديثه عن الدور المصري تحدث أوباما عن وضع أسس لسلام شامل عبر التزام مصري بوقف تهريب الاسلحة من حدودها, وربما يكون هذا الفهم نتيجة ما تشيعه إسرائيل حول هذا الأمر, الذي أسفر عن توقيع الاتفاق الأمني بين إسرائيل وأمريكا.
وكان الموقف المصري منه واضحا بأن هذا الاتفاق لا يفرض أية شروط أو التزامات علي مصر ورفضها التام لوجود أي مراقبين دوليين علي الجانب المصري من الحدود, ووفقا للمعلومات المتاحة فإن مصر أوضحت وستوضح للإدارة الجديدة, أن مسئولية حماية وتأمين الجانب المصري من الحدود مسئولية مصرية, وأن الجانب الآخر من الحدود يخضع لمسئولية إسرائيل القانونية باعتباره دولة محتلة, وأن مصر أغلقت عشرات الانفاق في الجانب الخاص بها, أما الجانب الآخر فهي غير مسئولة عنه, في الوقت الذي تملك فيه من الوثائق والدلائل التي تثبت أن تهريب السلاح وغيره يتم عبر السواحل التي تسيطر عليها إسرائيل, وأن أي تجارة سرية تتم عبر أراضي إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة ولا تتحمل مصر أي مسئولية عن هذه المناطق.
وربما يكون حديث أوباما عن اتخاذ خطوات عربية باتجاه التطبيع مع إسرائيل هو الفهم الخاطئ الثاني في حديثه, والذي يحتاج ايضا للتوضيح في أن وجود علاقات طبيعية بين الدول العربية وإسرائيل مرتبط بإحلال السلام العادل والشامل في المنطقة, هذا السلام الذي لن يتحقق إلا بعودة حقوق الشعب الفلسطيني وقيام دولته المستقلة, وعاصمتها القدس.
وأن أي حديث عن تطبيع للعلاقات دون استرداد الشعب الفلسطيني لحقوقه يعني عودة الصراع, والحروب للمنطقة مرة أخري.
عصر أوباما الجديد في البيت الأبيض, برغم الالتزام التاريخي والاستراتيجي الأمريكي بإسرائيل, قد يكون فعلا عصرا جديدا للمسئولية الأمريكية, وعلينا أن نلتقط كل الإشارات المقبلة من هذا العصر مصريا, وفلسطينيا, وعربيا, حتي لا نضطر لانتظار الانتخابات الأمريكية الجديدة!!
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.