.. الـ100 متر التالية لأوباما
بقلم : عــاصـم الـقـرش
.. الآن يبدأ الحساب, ومع انتهاء الأيام المائة الأولي لباراك أوباما في البيت الأبيض( منتصف ليلة أمس بتوقيت واشنطن) يجب ألا ندهش عندما تتراجع شيئا فشيئا مشاعر الإعجاب والترقب التي لاحقت الرئيس الأمريكي الجديد في كل مكان ذهب اليه ومع كل قرار اتخذه, وكل خطاب ألقاه, وكل اجتماع عقده علي مدي أسابيعه الأولي في الحكم.. من اليوم ستتوقف عبارات المجاملة التي أغدقت بلا حساب علي شرفه وستنتهي معها أيضا فترة السماح أوهدنة شهر العسل القصير التي يتمتع بها أي رئيس جديد مع وسائل الإعلام والرأي العام وعواصم العالم التي تابعت كل حركة وسكنة له منذ انتخابه ثم تنصيبه.
بسرعة ـ في100 يوم فقط ـ نجح أوباما في ملء فراغ المقعد الكبير الذي بدا خاليا حتي في وجود الرئيس السابق بوش الابن, وانتزع الاعجاب بمحاولته تضميد جراح كثيرة خلفتها الأعوام الثمانية الصعبة الأخيرة التي تعالت فيها أمريكا علي الجميع. المتحمسون للرئيس الجديد رأوا فيه ساحرا تعلم المشي والعدو من اليوم الأول دون حتي ان يحبو. ودليلهم انه لم يضيع وقتا وهو يبدأ علي الفور طي صفحة الماضي التي باعدت بين امريكا وشعوب بلا حصر. كما انه تحرك علي أكثر من جبهة في نفس الوقت وفي الاتجاه الصحيح بهدوء ومرونة لا تخطئهما العين مستخدما مفردات أكثر تواضعا ومركزا علي ما يعتبره الكثيرون الأولويات الأصح, بدءا من انقاذ قطار الاقتصاد الأمريكي و إحياء عملية سلام الشرق الأوسط وإغلاق معسكر جوانتانامو سيئ السمعة, وانتهاء بالدعوة لعالم بلا أسلحة نووية..
وسواء كانت القضية هي مد الجسور مع العالم الاسلامي أو الابتسام في وجه كوبا بعد عقود من التجهم أو الانفتاح علي ايران أو تنقية المياه العكرة مع الروس, أو دق أبواب سوريا, فإن نبرة التصالح في كلامه كانت هي الغالبة ومعها اعتذارات مهذبة تدعو الي العفو عما سلف ومحاولة جادة لتصحيح أخطاء لتركة الثقيلة التي وجدها في انتظاره خارج أبواب المكتب البيضاوي, فضلا عن استعداد واضح للإنصات للآخرين.
في المقابل فإن نقاده الذين يعترفون بأنه يستحق درجات نهائية في الخطابة والقدرة علي التواصل يأخذون عليه ـ في عشرات الكتابات التي ظهرت هذا الاسبوع ـ أنه مستغرق في الماضي ومهتم أكثر مما يجب بالقضايا التي حركته في صباه. وبعضهم ـ خبراء هريتيج فونديشن مركز التفكير للتيار المحافظ في أمريكا مثلا ـ لا يعجبهم أنه انتقد بلاده علنا أكثر مما فعل أي رئيس آخر في تاريخها, ويرون انه برغم شعبيته الجارفة في الخارج فإن هذه الميزة لم تترجم نفسها الي نتائج ملموسة لصالح أمريكا, بل إن هناك من يسلبه أي فضل عندما يؤكد أن اكبر نجاح حققه الرجل تركز تحديدا في المناطق التي واصل فيها سياسات سلفه الرئيس بوش, وبالذات فيما يتعلق بأفغانستان والعراق, ثم يضيفون ان التركيز علي مزايا شخص الرئيس جاء علي حساب مصالح أمريكا وانه قد يكون الرجل المناسب لكن في الوقت الخطأ.
في كل الأحوال هناك أجواء مختلفة في انحاء كثيرة من العالم بسبب ما يسمي الآن ظاهرة أوباما, والي الحد الذي جعل الكثيرين يرون فيه الحل الذي تأخر طويلا لمشاكلهم: بعض العرب ـ بطيبة قلب ـ يريدون منه ـ إن أمكن ـ ان يصبح رئيسا عربيا. واللاتينيون الذين ملوا سنوات الهجر متفائلون برجل البيت الأبيض الجديد. والأفارقة التعساء ـ ومن خلفهم معذبو العالم الثالث, لم يعد شيء يمنعهم من أن يحلموا بعيون مفتوحة بالمنقذ الذي تجري في عروقه دماء افريقية الأصل. باختصار كل فريق يريده لنفسه!
نحفظ عن ظهر قلب كيف ان الانطباعات الأولي ـ في عالم المشاعر ـ تدوم طويلا, لكن دنيا السياسة لها قلب اخر من حديد ومصالح وضغوط وتناقضات وحسابات وإرادات تتغير معها الصورة في نهاية كل يوم. لهذا انتهي بسرعة وقت الاجماع, ولهذا يتفق الكثيرون علي ان المائة يوم ـ المائة متر ـ التالية في مشوار أوباما الطويل لن تكون سهلة أبدا علي أغلب الجبهات التي اقترب منها حتي الآن, وربما تتيح لكل الأطراف ان يختبروا خلالها معدنه الحقيقي بعد انتهاء فورة الدهشة وأسابيع الاحتفال والاحتفاء واستكشاف درجة حرارة المشاكل وجس النبض ولحظات التعارف الأولي بين الجانبين: أوباما والعالم… وبالذات مع رئيس وضع لنفسه مهمتين طموحتين وبالغتي الصعوبة: إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي الذي عطله إعصار الأزمة المالية العالمية وبدء عهد جديد للسياسة الخارجية يرسم صورة مختلفة لوجه أمريكا.
وفي الظاهر فإن الطريقة التي استعد بها أوباما لقفزته الأولي في بحر السياسة العاتي ساعدته علي أن يزيح عن طريقه هاجس قضية مكافحة الارهاب ويعيده الي حجمه الحقيقي بعد أن ظل يحجب كل ما عداه في رئاسة بوش ويلون نظرة أمريكا الي كل ما هو اسلامي, والأهم انه أدار ظهره للرؤية المسطحة التي تعاملت بها واشنطن قبله لسنوات مع قضايا الشرق الأوسط وقادتها الي حربين وسلسلة أخطاء بلا عدد. والمنهج نفسه يسري علي الإشارات الأولي الخارجة من أمريكا لتلح علي حل الدولتين, والتي تبدو مختلفة ومشجعة مبدئيا( لكن ليس الي الحد الذي يطمئننا ويقلق اسرائيل) وإن كانت تثير شكوك البعض بمساومتها علي مستقبل الدولة الفلسطينية والذي تربطه تصريحات مسئولي الإدارة الجديدة بملفات العلاقة المعقدة مع ايران في حزمة واحدة, وبما يخشي معه ان يكون التقارب مع طهران علي حساب الفلسطينيين الذين يجبرهم قدرهم علي تسديد فواتير المنطقة كل حين.
العبرة بعد ذلك بالنتائج لا بالنوايا أو التصريحات. وفيما يتعلق بنا في العالم العربي يهمنا طبعا مثل الجميع ان يكون رئيس أمريكا ـ أي رئيس لها ـ عاقلا ومتوازنا ومنصفا غير ان ما يعنينا في أوباما أكثر من أي شيء آخر هو الطريقة التي سيتعامل بها مع مشاكلنا وأمانينا. لكن الحكمة تقتضي ان نوطن أنفسنا ـ بحكم تجارب كثيرة سابقة ـ علي ان المفاجآت أمر وارد في العلاقات مع دولة بحجم وتعقيد وتأثير ونطاق حركة الولايات المتحدة, وربما يفيدنا كثيرا ـ قبل أي صدمة محتملة ـ ان نذكر أنفسنا طوال الوقت بشيء واحد بالغ البساطة هو ان أوباما في الأول والآخر رئيس لأمريكا( الأمريكيون علي الأقل انتخبوه لهذا الغرض) ومهمته الوحيدة هي تحقيق مصالح بلاده مهما بدت مناقضة لمصالح الآخرين ولو كانت عادلة ومشروعة وواضحة كالشمس.
التوقعات إذن ستكون هي مشكلتنا الكبري مع أوباما من هنا وحتي نهاية الـ100 يوم التالية وإلي آخر ساعة في رئاسة الرجل: هل يستطيع؟ هل يجب؟ هل يريد؟ ومن العقل ألا نفترض ان تحمسنا له سيعني بالضرورة أنه سينفذ كل ما نتمناه. لا أحد يفعل ذلك ولا شيء سيضطره اللهم إلا إذا بقينا في مجال رؤيته وفرضنا أولوياتنا علي جدول أعماله. وحتي لو تحقق بعض ذلك ـ أو كله ـ سنرتاح لو سلمنا بأن الرئيس الأمريكي ـ أيا كانت سطوته ـ ليس وحده صاحب القرار في دولة المؤسسات الأمريكية, وان هناك ـ حتي لو أراد ـ حدودا لما يمكن ان يفعله في مواجهة جماعات المصالح والاحتكارات وكل من له نفوذ في أمريكا الكبيرة.
الآن انتهت البروفة… ليبدأ العرض بعد لحظات.. احجزوا مقاعدكم!
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.