تعددت وتنوعت ــ إلى حد التناقض ــ الاتهامات التى وجهت إلى الرئيس الأمريكى باراك أوباما خلال الفترة الماضية من رئاسته.. التى يفضل الأمريكيون وصفها بالأيام المائة الأولى، أيام الاختبارات.
الآن اليمين الأمريكى ــ ممثلا بصفة خاصة فى المحافظين الجدد، وهناك منهم من الكتاب أكثر من السياسيين ــ يتسمون بالاستعجال والجرأة والاندفاع إلى توجيه الاتهامات يسارا وأكثر يسارا، لأنهم لا يتهمون اليمين عادة، فإنهم سارعوا فى الأيام المائة الأولى إلى وصفه بأنه اشتراكى، وانه إنما يربض بانتظار أن يقرر تأميم البنوك وشركات التأمين والمؤسسات الرأسمالية الكبيرة التى ضربتها الأزمة الاقتصادية.
وصحيح أن كلمة اشتراكى ليست أكثر من وصف اقتصادى ــ سياسى، إلا أنها حينما تصدر عن اليمين فإنها تكون مشحونة بصفة الاتهام. ذلك أن اليمينيين الأمريكيين يعتقدون ــ أو بالأحرى يهوون الاعتقاد ــ بأن الأمريكيين يفزعون من الاشتراكية وأى إجراء أو قرار يقترب منها.
غير أن الأيام المائة الأولى انقضت دون أن يعلن أوباما قيام جمهورية الولايات المتحدة الاشتراكية.. بل حتى دون أن يقترب من التأميم، وإن كانت غالبية كبرى من الأمريكيين بدأت تدق الأبواب مطالبة بالتأميم مقتنعة بأن فيه إنقاذها، دون ضياع تريليونات الدولارات على هدف إنقاذ المؤسسات الرأسمالية الكبرى التى انهارت أو قاربت الانهيار. وبطبيعة الحال وجه إلى أوباما الاتهام بأنه ــ على الأقل ــ متردد، وعلى الأكثر حليف لقطاع الأعمال الكبرى ومخلص لوول ستريت وفلسفتها الرأسمالية المتوحشة.
نفذ أوباما أحد وعوده بان تكون له مقاربة مختلفة مع العالم الإسلامى تنقذ العلاقات الأمريكية ــ الإسلامية من نيران الصراع التى أججها سلفه الرئيس جورج بوش وإدارته. وأعلن أثناء وجوده فى أنقرة أنه يريد علاقة مع الإسلام والعالم الإسلامى تقوم على احترام متبادل. وعلى الفور جاءه سؤال ساخر محمّل بالاتهام من أحد كتاب صحيفة «وول ستريت» (دانييل هيننجرا): «هل سيرد الإسلام على احترام أوباما باحترام مماثل؟».
وفى ذروة انتقادات من كل ركن سياسى وإعلامى صهيونى فى أمريكا وأوروبا وإسرائيل ضد احتمالات تناقض بين أوباما ورئيس وزراء إسرائيل الجديد ــ اليمينى المتطرف بنيامين نتنياهو ــ ووزير خارجيته افيجدور ليبرمان زعيم التطرف اليمينى فى إسرائيل بلا منازع ــ اتخذ أوباما قرار إدارته بمقاطعة مؤتمر الأمم المتحدة فى جنيف ضد العنصرية (ديربان 2)، وكان من الطبيعى أن يأتى أول اتهام يثيره هذا القرار من جانب أكثر مؤيدى أوباما حماسا وابتهاجا بوجوده: الأمريكيون السود.
وكان ردهم على القرار أنه ينطوى على احتقار للسود. ذلك أن مؤتمر الأمم المتحدة ضد العنصرية يعنيهم قبل أن يعنى غيرهم. ورد الفعل العربى معروف ومسلّم به.
وجاء قرار أوباما بالحد من الزيادة فى ميزانية «البنتاجون» نظرا للظروف المالية التى تمر بها الولايات المتحدة فلم يرض اليمين الذى لا يريد قيودا ولا حدودا على زيادة ميزانيته ــ ونفوذ ــ المؤسسة العسكرية، ولم يرض اليسار الذى انتظر من أوباما أن يعيد الأولوية للسلطة المدنية هيبتها على السلطة العسكرية فى أمريكا، وأن يعيد لبرامج الرعاية الاجتماعية فاعليتها وإن اقتضى ذلك الأخذ من ميزانية التسلح الأمريكى التى تعادل ضعف ميزانيات التسلح فى دول العالم الأخرى مجتمعة. أوباما اتهم عندئذ صراحة بأنه يسير فى طريق بوش.. لا أقل.
وقرر أوباما أن تنشر الإدارة الأمريكية الوثائق المتعلقة بأعمال التعذيب الوحشية التى اقرها أعلى المسئولين فى إدارة بوش وقامت بتنفيذها عناصر من وكالة الاستخبارات الأمريكية.. لكنه رأى أنه من المناسب أن يحمى عناصر المخابرات من المساءلة حتى لا يحاكمون على تنفيذ قرار اتخذته الإدارة السابقة وهى مسئولة عنه.
فكانت النتيجة أنه أغضب اليمين الذى رأى فى نشر تلك الوثائق «بيعا لأسرار أمريكا»، وأغضب اليسار الذى رأى أن إعفاء المخابرات الأمريكية من المساءلة رضوخ من أوباما لسياسات إدارة بوش وعجزا عن إظهار شجاعة أدعى فى الحملة الانتخابية التى أوصلته للرئاسة أنه يملكها.
وهكذا إذا تعقبنا كل قرارات أوباما خلال هذه الفترة القصيرة…
مع ذلك تبقى أكثر الاتهامات حدة ضد أوباما تلك التى وصفته بأنه «نيرون محاط بشبكة أفاعى الحرب النفسية» ونصحته بأن عليه أن يطهر إدارته من هذه الشبكة وإلا فان نهايته محتومة، بل إنها قد تحدث قبل أن يتم فترة رئاسته الأولى.
جاء هذا الاتهام فى «تحقيق» كتبه جون هوتيل ونشرته أسبوعية «مجلة المخابرات التنفيذية» التى تصدرها مجموعة موالية لمرشح الرئاسة الأمريكية الدائم ليندون لاروش. اما أن أوباما هو نيرون آخر فلأنه رئيس يتسم بالنرجسية، مفرط الإعجاب بذاته.. الأمر الذى يظهر بجلاء فى رغبته فى إرضاء جميع القوى وأضدادها، الأعداء والأصدقاء على السواء، وانه يغير رأيه خلال أياما معدودة حتى فى أكثر القضايا خطورة، كقضية الحد من الصواريخ الدفاعية المضادة للصواريخ. قال رأيا للقادة الروس وقال رأيا مضادا للقادة الأوروبيين فى اجتماع مجموعة العشرين فى لندن فى أوائل أبريل الماضى.
وأما مجموعة شبكة أفاعى الحرب النفسية فالمقصود بها مجموعة المسئولين فى إدارة أوباما الذين يديرون شئون الأزمة الاقتصادية الراهنة. فهؤلاء ــ حسب كاتب «التحقيق» ــ ورئيسهم هو لارى سومرز مدير المجلس الاقتصادى القومى، أى أكبر مستشارى الرئيس للشئون الاقتصادية ــ ينتهجون سياسة تخضع لآراء راديكالية بريطانية قديمة، قال بها أمثال جون لوك وجيرى بنتام وآدم سميث وغيرهم.
وبرنامجهم لا يعدو أن يكون برنامجا لغسيل المخ يهدف إلى إقناع الشعب الأمريكى بأن فقاقيع الرأسمالية كانت خيرا له وأن مديرى سياسة السوق كانوا يعرفون جيدا ما يفعلون. أما الآن فإنها سيئة لأنها مضت لأبعد مما ينبغى.. ولإصلاح الوضع لابد من تغييرات وتضحيات أولها قبول مستوى للمعيشة أدنى ، ويضيف لاروش نفسه ــ فى محاضرة مستقلة ــ أنه لو تم التخلص من مجموعة الأفاعى هذه فإن الرئيس سيصبح محاطا بوزراء شرعيين ومستشارين جيدين يمكن أن يوجهوه ليفكر بطريقة صحيحة فى أمور مثل الاقتصاد.
وعلى الرغم من أن اتهامات لاروش وأسبوعيته قد تبدو تصفية حسابات شخصية مع عدد من مساعدى أوباما، إلا أن هدف تغيير السياسة الاقتصادية لإدارته يظهر فى تأكيدات تصدر عن خبراء لا مصلحة شخصية لهم فى الأمر. وعلى سبيل المثال فان وليام بلاك أستاذ الاقتصاد والقانون فى جامعة ميسورى يقول بضرورة تغيير الطاقم الرئيسية فى فريق أوباما الاقتصادى ــ وفى مقدمتهم تيم جايثر وزير الخزانة «وإلا فان الفضيحة ستدمر رئاسة باراك أوباما».
أى نتيجة يمكن الخروج بها من هذه الغابة الكثيفة من الاتهامات والاتهامات المضادة؟.. أين يمكن أن يتجه أوباما فيما بقى له من فترة رئاسته الأولى، أو بالأحرى فيما بقى له من فترة الاستناد إلى كونجرس لحزبه الديمقراطى أغلبية فى مجلسيه، أى حتى شهر نوفمبر 2010 فقط، فعندئذ قد يقرر الناخبون الأمريكيون حرمانه من هذا السند القوى عندما تأتى فرصة انتخابات الكونجرس لكل أعضاء مجلس النواب وثلث أعضاء مجلس الشيوخ فى منتصف مدة الرئاسة.
لهذا فإن أيام أوباما الصعبة هى الستمائة القادمة.. لا المائة الماضية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.