Welcome to Cairo President Obama

<--

الشكر واجب للرئيس أوباما على اختياره القاهرة عاصمة يتوجه منها بالخطاب إلى عالم إسلامى، يريد للولايات المتحدة أن تصحح علاقتها معه. وإن دلّ قراره هذا على شىء فإنما يدل على حس سياسى رفيع، أو هكذا أتصور أو آمل!

وأعتقد أنه لم يكن قرارا صعبا على أى حال، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الخيارات المتاحة أمامه كانت محدودة فعلا. فحين يرغب رئيس أمريكى فى توجيه خطاب إلى الشعوب الإسلامية من عاصمة إسلامية، فمن الطبيعى أن يفكر أولا فى اختيار عاصمة عربية،

وذلك لسبب بسيط أيضا، وهو أن العالم العربى هو قلب العالم الإسلامى، وحين تتقلص الخيارات لتنحصر فى المفاضلة بين عواصم عربية، فمن الطبيعى أن تصبح القاهرة هى الخيار الأول، لأنه إذا سلمنا ابتداء بأن العالم العربى هو قلب العالم الإسلامى، فمن الطبيعى أن نسلم انتهاء بأن مصر هى قلب العالم العربى.

أدرك أن اختيار أوباما للقاهرة أثار لغطا كبيرا تردد صداه فى أماكن مختلفة من العالم، بما فى ذلك الداخل الأمريكى نفسه. فقد اعتبر كثيرون أن اختيار مصر لم يكن قرارا صائبا بسبب سجل نظامها، الحالى فى التضييق على الحريات العامة والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، غير أن هذا النوع من اللجاج ينطوى على خلط واضح بين مصر التاريخية ومصر النظام، وبينهما بون شاسع لا يلتقيان! فمصر التاريخ هى النتاج الطبيعى لما سماه الراحل الكبير جمال حمدان «عبقرية المكان»،

أما مصر النظام فهى النتاج الطبيعى لما يمكن تسميته «عبث الأقدار». ورغم إيماننا العميق بأن مصر النظام قزّمت مصر التاريخ، التى تستحق أفضل بكثير مما هى فيه الآن، فإننى أعتقد أن أوباما يدرك الفرق الشاسع بين الاثنتين. والشىء المؤكد أن الموقف من قضية الحريات العامة وحقوق الإنسان لم يكن هو المعيار الحاسم فى تحديد العاصمة التى وقع عليها الاختيار، لأن سجل العواصم العربية كلها فى مجال حقوق الإنسان «أنيل من بعضه»، والحمد لله الذى لا يحمد على مكروه سواه!

لذا أكاد أجزم أن أوباما اختار مصر التاريخ وليس مصر النظام، لأن مصر التاريخ هى مصر الإسلامية والعربية والأفريقية والآسيوية والبحر متوسطية.. أى هى الكل فى واحد.

لننحِ الآن جانبا قضية المكان الذى أراد الرئيس الأمريكى أن يوجه منه رسالة إلى العالم الإسلامى، ولنتحدث عما هو أهم، أى عن مضمون الرسالة نفسها، والأسباب التى دفعت بالرئيس أوباما لتوجيه خطاب إلى العالم الإسلامى بالذات دون سواه، هل لأنه يعتقد حقا أن مشكلة الولايات المتحدة هى فقط مع العالم الإسلامى؟

افتراض أن للولايات المتحدة علاقات جيدة مع كل دول العالم، وأنه لم يبق لها بالتالى سوى تحسين علاقتها بالعالم الإسلامى كى تبرق صورتها من جديد، هو افتراض أقل ما يقال فيه إنه قابل للمناقشة، وأغلب الظن أنه افتراض غير دقيق.

صحيح أن علاقة الولايات المتحدة بالعالم الإسلامى تبدو أسوأ بكثير من علاقتها بأى منطقة أخرى فى العالم، وهو أمر لا يحتاج إلى إثبات، بدليل حروبها المفتوحة على جبهات عديدة تقع كلها تقريبا فى مناطق مختلفة من العالم الإسلامى، فالولايات المتحدة مشتبكة فى قتال مباشر وشرس يخوضه مئات الآلاف من جنودها فى العراق وأفغانستان، وهى مشتبكة فى قتال تخوضه بالوكالة كل من باكستان وإسرائيل على جبهات أخرى تقع فى العالم الإسلامى أيضا..

لكننا إذا أمعنا النظر فى حقيقة ما يجرى فسوف نكتشف على الفور أن المشكلة لا تكمن فى كراهية الولايات المتحدة للإسلام والمسلمين، كما يدعى البعض، أو فى كراهية المسلمين للولايات المتحدة ونظامها القيمى ونمط حياتها، كما يدعى البعض على الجانب الآخر، وإنما تكمن فى حقيقة أخرى وهى أن الولايات المتحدة اعتبرت نفسها الوريث الشرعى للإرث الاستعمارى الأوروبى، وأصرت على ممارسة نفس السياسات الاستعمارية القديمة ولكن بوسائل وأساليب أخرى جديدة!

وعندما سقط الاتحاد السوفيتى، تصرفت باعتبارها الطرف المنتصر فى الحرب الباردة، الذى يحق له أن يُحكم قبضته المنفردة على العالم وأن يفرض نظامه القيمى ونمط حياته على الجميع، ظًنا منه أنه النظام الأرقى والأجدر لمجرد خروجه منتصرا فى جولة الحرب الباردة!

وإذا كانت إدارة المحافظين الجدد قد اختارت «الشرق الأوسط الكبير» مسرحًا أو ساحة قتال لإدارة معركة الحسم الأخيرة على طريق الهيمنة على العالم، فلم يكن هذا الاختيار مدفوعا، فى تقديرى، بمشاعر كراهية خاصة تجاه الإسلام والمسلمين، بقدر ما كان مدفوعا بعوامل موضوعية ترجح كفة هذا الاختيار، أهمها: النفط، وأمن إسرائيل، وضعف وتخاذل وانصياع قادة الدول العربية والإسلامية.

ولأن إدارة المحافظين الجدد بَنت حساباتها على أن المعركة سهلة وستحسمها بسهولة.. فقد افترضت أن النجاح فى إسقاط نظام صدام فى العراق ستتبعه ـ وفقا لنظرية الدومينو ـ نجاحات مماثلة فى سوريا وإيران ولبنان وفلسطين. غير أنه ثبت بالدليل القاطع أن المحافظين الجدد لم يقعوا فى مجرد خطأ حسابى، وإنما بُنيت رؤاهم الاستراتيجية كلها على أوهام أيديولوجية وعقائدية بأكثر مما بُنيت على أسس علمية وعلى تقديرات براجماتية.

ولذلك كانت الكارثة كبيرة ليس فقط للعالم الإسلامى وحده، الذى نال الحظ الأوفر من التدمير، ولكن للعالم كله بما فيه الولايات المتحدة نفسها. وكان من الطبيعى أن تقود هذه الكوارث ـ خصوصا بعد انكشاف أزمة النظام الرأسمالى ـ إلى ردود فعل عنيفة مطالبة بإحداث تغييرات عميقة ليس فقط فى بنية النظام الأمريكى، ولكن فى بنية النظام العالمى ككل.

يدرك أوباما جيدا أنه لولا الخطايا التى ارتكبتها إدارة المحافظين الجدد لما كان باستطاعته أن يقترب ولو خطوة واحدة من البيت الأبيض، كما يدرك أيضا أن الشعب الأمريكى اختاره للتغيير وليس لأى شىء آخر. وفى تقديرى أنه يعرف بالضبط حجم ونوع التغيير المطلوب وأنه الوحيد المؤهل لقيادته، ربما بحكم أصوله الإثنية وجذوره الدينية وتعليمه الراقى.

لكن السؤال: هل يستطيع أوباما أن يحقق التغيير المنشود ويحوله من مجرد أمل وطموح إلى واقع ملموس؟ أظن أن الوقت مازال مبكرا لتقديم إجابة حاسمة عن هذا السؤال. فعلى الرغم من أن أوباما يبدو فى نظر الكثيرين الآن مترددا ومرتبكا، خصوصا بعد تراجعه عن إغلاق معسكر جوانتانامو والمحاكم العسكرية، فإننى مازلت متفائلا به وبقدراته، وأظن أنه يستحق أن نعطيه مزيدا من الوقت!

إن شخصا بمثل ذكاء أوباما وما يتمتع به من مواهب طبيعية وكاريزما لابد أن يكون واعيا بحجم ونوعية العقبات التى تحد من قدرته على إحداث التغيير المطلوب، وأن يكون على دراية تامة بأن هذا التغيير هو لمصلحة أمريكا أولا قبل أن يكون فى مصلحة العالم، غير أننا لا نستطيع أن نتنبأ بما إذا كان أوباما سيؤثر السلامة ويستسلم فى النهاية لتيار يريد توظيفه من أجل إحداث تغيير شكلى لا يؤثر على بنية وموازين القوى المستفيدة وصاحبة المصلحة فى استمرار الوضع الراهن، أم أنه يعى جيدا أن مستقبله ودوره فى التاريخ مرهون بقدرته على إحداث التغيير المنشود، وبالتالى مازال فى مرحلة المناورة واختبار الخطط التكتيكية قبل أن يبدأ هجومه الرئيسى..

أظن أن الاحتمالين واردان بنفس القدر، والأرجح أنه لن يمر وقت طويل قبل أن تتكشف خططه وقدراته ونواياه الحقيقية، فقبل أن يأتى إلى القاهرة حاملا خطابه المنتظر إلى العالم الإسلامى، سيكون قد استكمل مشاوراته فى واشنطن مع الأطراف المنخرطة فى القضية الفلسطينية، والتى ستكون بمثابة الاختبار الحاسم له.

لا أظن أن العالم الإسلامى يريد أن يسمع من أوباما كلاما بليغا ومعسولا عن مدى الاحترام الذى يكنه للدين الإسلامى، أو يكتب له شهادة ببراءة دينه من إرهاب لصقوه به ظلما، أو يسمع منه عبارات مكررة عن مصلحة الجميع فى مقاومة إرهاب لا دين له ويمارسه كثيرون.

ولأن مشكلة الولايات المتحدة هى مع العالم كله وليس مع الإسلام والمسلمين، فعليه أن يوجه خطابه من فوق منبر الأزهر لكل من يريد للولايات المتحدة أن تتغير مؤكدا تخليها عن مشروع الهيمنة والتزامها بالسعى لإقامة نظام دولى جديد متعدد القطبية.

ولإثبات حسن نية إدارته، على أوباما أن يعلن من القاهرة التزامه بأمور، عدة أهمها: ١- عدم استخدام «الفيتو» لحماية الدول التى تنتهك أحكام القانون الدولى. ٢- اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان انضمام الولايات المتحدة إلى المحكمة الجنائية الدولية. ٣- السعى الجاد لإصلاح منظومة الأمم المتحدة.

يدرك أوباما أيضا أن الشعوب الإسلامية التى يريد أن يخاطبها من فوق منبر الأزهر تئن تحت نير استبداد حكامها، لكن هذه الشعوب لا تريد منه أن يفرض النموذج الأمريكى على العالم بقوة السلاح، وإنما تريد منه فقط أن يؤكد عزم إدارته على احترام قواعد القانون الدولى والمساعدة على فرض الالتزام بها على الجميع. وإذا حدث ذلك فسيصبح عمر الحكومات المستبدة، خاصة فى عالمنا العربى والإسلامى، قصيرا جدا.

ولأن هذا هو ما نتمنى سماعه من أوباما فى القاهرة، فمن الطبيعى أن نرحب به كثيرا!

About this publication