Love Is Blind

<--

احذروا شعبية أوباما!

الإثنين, 10 أغسطس 2009

جميل مطر *

< لم يحدث، فيما أذكر، أن رئيساً أميركياً حظي بشعبية خارج بلاده كالشعبية التي يحظى بها باراك أوباما، ولم يحدث أنني، وقد عاصرت عدداً غير قليل من رؤساء أميركا، تمنيت أن يفلح واحد منهم مثلما تمنيت لأوباما أن يفلح. تمنيت أن يفلح لا لشيء سوى للرمز الذي يجسده: رجل ملون ناجح في عالم تحكمه وتتحكم فيه أفكار تعلي من شأن الأبيض وتؤمن بأن الملون أقل ذكاءً وإبداعاً وإنتاجية وتسعى بنية صادقة أو فاسدة إلى حقنه بقيم الرجل الأبيض ومعتقداته، وان دعت الحاجة فليحدث ذلك بالحرب والغزو والتدخل.

أوباما رجل ملون، وإن استمر إصرار العنصريين من البيض على أن سمرته غير نقية بدعوى أن في عروقه تجري دماء ورثها من أم بيضاء، هذا الرجل الملون أثبت أنه ند لامرأة بيضاء ورجل أبيض توفرت لهما كل أسباب النجاح، ووصل إلى أعلى منصب سياسي في عالم الرجل الأبيض واحتل وعائلته السوداء البيت الأبيض ليعيش فيه ويحكم منه. وبعد مرور ستة أشهر وأكثر قليلاً على وجوده في هذا المنصب شعرنا بالقلق ينتاب بعضاً أعرفه من الأصدقاء المسيسين أو العاملين بالسياسة، جميعهم تمنوا له النجاح، ففي نجاحه تهذيب وإصلاح للأفكار المعادية للملونين وفيه أيضاً رصيد يفيد في إعادة بناء نظام دولي أقل قهراً وتحيزاً وأكثر عدالة وإنصافاً وأغلبهم الآن لديه شكوك قوية.

كانت شعبية أوباما الدافقة داخل أميركا وخارجها مثيرة للإعجاب، قبل أن تصبح دافعاً للقلق. رأيناها فى مصر، ومازلنا نراها في مواقع أخرى. تقول الاستطلاعات في ألمانيا مثلاً أن 93 في المئة من الألمان يعتقدون أن أوباما سيسلك الطريق الصحيح في إدارة الشؤون الدولية، وهي نسبة تثير أكثر من تساؤل. أليس هؤلاء الألمان هم أنفسهم الذين يصوتون ضد السماح للملونين بالحصول على الجنسية الألمانية ويعاملونهم معاملة غير لائقة؟ هؤلاء، تقول الاستطلاعات، أنهم لن يختاروا لألمانيا مستشاراً ملوناً. ومع ذلك خرجت من بين هؤلاء حشود ترحب بأوباما الملون. يومها سمعنا التهليل إلى حد الصراخ ورأينا الانفعال

إلى درجة الإغماء، أذكر حشوداً مماثلة خرجت تستقبل مايكل جاكسون، وهو أيضاً ملون، بالصراخ والإغماءات.

وفى أميركا، وغيرها، رأينا نساء ورجالاً يرتدون قمصاناً رسموا عليها صور أوباما وتحت كل صورة كلمة «الواحد The One»، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات سياسية وغير سياسية. آخرون كتبوا في المقالات وبشروا في الكنائس واجتماعات المدن والمدارس والجامعات بأن أوباما كالمسيح كلاهما كان ناشطاً اجتماعياً وهب نفسه لخدمة سكان أحياء الفقر والعاطلين عن العمل والمقهورين. قرأت برهبة شديدة، متذكراً جورج بوش الرئيس الأقوى تديناً بين من عاصرناهم من رؤساء أميركا والرئيس الذي شن حروب الحضارة ضد شعوب شتى، ما يتلى في بعض الكنائس عن «المملكة» التي جاء أوباما لإقامتها على الأرض. وسمعنا في مصر كما في دول عربية كثيرة مفكرين وسياسيين ومواطنين عاديين يتحدثون عن أوباما كما يتحدث متدينون ومتشيعون لعقائد بعينها عن المهدي المنتظر الذي سيخلص الأمة الإسلامية، والعربية إن أمكن، من أعدائها ويستعيد الأراضي المسلوبة ويعيد للدين مكانته ويحقق آمالنا وأحلامنا ويغدق علينا المال والغذاء فنصبح أسعد شعوب الأرض. وسيكون للرجل كل ما يشاء وسنلبي كل مطالبه وما علينا إلا طاعة أمره.

لم يكن باراك أوباما نفسه أقل كرماً أو مبالغة في وعوده. وعد الأميركيين بملايين الوظائف في وقت كنا وكانوا في أميركا يناقشون مؤشرات تشير إلى احتمال قوي بقرب وقوع انكماش اقتصادي وفوضى مالية وسقوط مدوٍّ في سوق العقارات. وعد أيضاً بالقضاء على داء السرطان، وبشر بعالم خال من الأسلحة النووية، ووضع مشروعاً لبرنامج طموح للرعاية الصحية تستفيد منه الأغلبية العظمى من الشعب الأميركي ضد مقاومة شرسة من قطاعات في طبقة رجال الأعمال. وعد أيضاً بأن يكون خريجو الجامعات الأميركية في صدارة أكفأ الخريجين في العالم ومتفوقين في مادتي الرياضة والعلوم. وعد بأشياء كثيرة من حقه أن يعد بها كمرشح للرئاسة وكرئيس في بداية عهده، إلا أنه حين يبالغ بوعود مستحيلة التحقيق أو بوعود ترفع توقعات الناس إلى درجة تصبح التوقعات عندها مصدر ضغط شديد عليه وعلى حكومته، عندئذ يكون قد تسبب فى إلحاق الضرر لنفسه ولشعبيته.

الخطأ في الحكم ليس خطأ الزعيم أو الحاكم وحده وإنما تشاركه فيه الشعوب الأتباع. أبدأ بالأتباع. خذ مثلاً هيلاري كلينتون منافسته في الانتخابات ووزيرة خارجيته التي نبهته إلى أنه إلى جانب كونه قائداً أعلى للقوات المسلحة فهو أيضاً قائد أعلى للاقتصاد القومي. يقول جين هيلي فى كتابه الصادر أخيراً تحت عنوان «عبادة الرئيس» إن الآباء المؤسسين خصصوا لرئيس الجمهورية الأميركية ثلاث مهام هي الدفاع عن الأمة إذا تعرضت للهجوم، وتنفيذ القانون، واحترام الدستور. لم يكن بين المهام قيادة الاقتصاد القومي أو تحقيق الرخاء للمواطنين أو صد الكوارث والتعامل معها حين وقوعها. لم يكن بين المهام أن يكون الرئيس الأميركي زعيماً للعالم ووسيطاً بين الدول وشرطياً ينظم العلاقات بين الأمم وأحياناً بين الطوائف والجماعات داخل الدول، ولم يكن بين المهام أن يقوم الرئيس الأميركي بتوجيه اللوم أو معاقبة حاكم في دولة أخرى على فساده أو فساد حكومته وعلى سوء إدارته لشؤون أمته. كلها وغيرها مهام أضيفت إلى المهام الثلاث لأن الشعب الأميركي وشعوب أخرى طالبت بها، ولأن أتباعه ومساعديه أقنعوه بها، أو وهو الأهم لأنه هو نفسه طالب بالكثير منها بحجة أنها ضرورية لتحقيق مطالب الشعب الأميركي والشعوب الأخرى. يزعم الحاكم الأميركي مثل أي حاكم آخر أن مطالب الشعوب وحاجاتها دفعته إلى البحث عن وسائل تساعده على الاستجابة لهذه المطالب، وأكثرها بطبيعة الحال يزيد من سلطاته. هكذا استجاب بوش لمطالب الأميركيين في الأمن حين فرض التنصت على المواطنين والتجسس على خصوصياتهم وخرق الأعراف حين سمح للجيش الأميركي بأداء مهمات على الأرض الأميركية خلال أزمة إعصار كاترينا.

المواطنون والأتباع هم الذين يزرعون وحش التسلط داخل جسم السلطة. يفعلون ذلك عندما يطالبون حكامهم بتحقيق مطالب ليست من اختصاصهم ولا يجوز أن تكون. ونحن، مواطنين كنا أم أتباعاً، الذين نفوض، بالحب أو الطاعة أو بغيرهما، الحاكم سواء كان منا أو كان من أميركا بأن يفعل بنا وبقضايانا ما يحلو له. هكذا فوضنا الرئيس باراك أوباما لحل قضية الشرق الأوسط، فوضناه بشعبية فائقة وثقة غير مسبوقة رغم أننا نعرف أنه منحاز لإسرائيل بحكم وظيفته وظروفه وظروف مؤسساتنا الحاكمة وغير الحاكمة. ننبهر بصموده في قضية فرعية ووقتية وجانبية وهي وقف الاستمرار في بناء المستعمرات، ولا نحتج على إصراره أن نخضع كأمة وممالك وجمهوريات لمطالب إسرائيل. لا نحتج بشدة على هذا الانحياز من جانب الرئيس أوباما وقد سبق لنا الاحتجاج بلهجة عنيفة وغضب شديد على انحياز أسلافه. لم نحتج ولا أظن أننا سنحتج لأن أجهزة الإعلام العربية ويأس الشعوب وفجوات الحكم وتعب السياسة وفقرها في العالم العربي جميعها نصبت أوباما قائداً أعلى للتسوية مزوداً بكل الحب والثقة وصلاحيات غير مسبوقة لينفذ وعداً من وعوده المبالغ فيها.

يقول هيلي في كتابه تقديس أو عبادة الرئاسة إن المبالغة الشديدة التي اكتست بها وعود أوباما ستجعل سقوطه، إن سقط، سقوطاً مدوياً، وقد يخرج من البيت الأبيض كالرئيس الأدنى شعبية في تاريخ أميركا. وأقول إنه إن حدث هذا فستكون خسارتنا كعرب وخسارة الفلسطينيين بالذات فادحة. علمتنا الأيام أنه في قضيتنا مع اليهود في فلسطين أو خارجها لم نحصل من وراء التسليم للولايات المتحدة إلا على خسائر متعاقبة في فلسطين، وعلمتنا أيضاً أن تقديس الفرد أياً وأينما كان لم تجن الشعوب من ورائه إلا الكوارث. وها نحن فيما يبدو نسلم للولايات المتحدة ونعشق باراك أوباما.

* كاتب مصري.

About this publication