ساركوزي ـ أوباما.. موسم الصقيع
بقلم : د. محمد مخلوف
«أرى أن باراك أوباما سيكون عند توليه مهام منصبه عونا لي وليس مشكلة. العالم رحب ويتسع لاثنين أو ثلاثة أو أربعة». صاحب هذه الجملة هو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وقد قالها في مطلع عام 2009 قبل عدّة أيام من استقرار أوباما في البيت الأبيض.
لكن «الرياح جرت بما لا تشتهي السفن»، والعلاقات بين الرئيس الفرنسي والرئيس الأميركي تمر اليوم بحالة من البرود الحقيقي. ولعلّ صفة البرود أقل دلالة بكثير ممّا هو واقع العلاقات بين الرئيسين. باراك أوباما لم يستقبل حتى الآن نيكولا ساركوزي في المكتب البيضاوي ـ المكتب الرئاسي ـ في البيت الأبيض. بل ولم تتم دعوته رسميا إلى واشنطن، حيث إن آخر استقبال رسمي له كان شهر نوفمبر عام 2007، أي في عهد جورج دبليو بوش.
للإشارة، استقبل أوباما قبل أسابيع قليلة في المكتب البيضاوي رئيس جمهورية بوتسوانا الإفريقية، وكان قد استقبل أيضاً رؤساء آخرين، بل واستقبل وزير الخارجية الصيني. وللإشارة أيضا، كان الرئيس أوباما قد وجّه أول رسالة «رسمية» في اتجاه فرنسا إلى الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، أما قصر الإليزيه فيمكنه أن ينتظر.
باختصار، لم تكن هناك، كما أراد وأوحى ساركوزي، خطوط هواتف «مفتوحة» ولقاءات متكررة على انفراد، وتبادل للآراء حول قضايا العالم والاستراتيجيات المطلوبة حولها بين الرئيسين. بل ما بدا، وفهمته باريس، هو أن أوباما يتعامل مع الرئيس ساركوزي، ليس على مبدأ «التميّز» في العلاقات، ولكن كرئيس بين رؤساء آخرين، لا أقلّ ولا أكثر.
ما تنقله الصحافة الفرنسية عن مقرّبين من الرئيس ساركوزي، يشير إلى أنه «تأثّر كثيرا في البداية. ثمّ حدد موقفه، مع استمرار نوع من الغضب الدفين».
وهذا ما بدت مؤشرات عليه في تصريحات ساركوزي نفسه، أثناء لقاء له مع عدد من الصحافيين قبل أسابيع في بداية شهر نوفمبر الماضي، عندما قال عن الذي كان يصفه ب«صديقه القريب» أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية، ما مفاده: «أوباما على رأس السلطة منذ سنة، وقد واجه الهزيمة ثلاث مرّات في انتخابات فرعيّة. أما أنا فقد فزت في عمليتين انتخابيتين تشريعيتين وفي الانتخابات الأوروبية. وماذا كان يمكن أن يقال لو أنني عرفت الهزيمة فيهما؟».
وكانت مسألة غياب أوباما عن الاحتفال بالذكرى العشرين لسقوط جدار برلين، مناسبة لإظهار قدر كبير من الغضب في تصريحات العديد من الرسميين الفرنسيين والأوروبيين، التي تصبّ كلها في خانة المطالبة بضرورة إعادة النظر في العلاقات بين القارّة القديمة والعالم الجديد، كما أثار غيابه التساؤلات في الولايات المتحدة ذاتها. صحيفة «نيويورك تايمز» ذكّرت بأن سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، يشكلان «أحد أهم اللحظات في التاريخ المشترك بين أوروبا والولايات المتحدة خلال القرن العشرين».
وفي ما هو أبعد من «الودّ المنقوص» بين الرجلين، أوباما وساركوزي، هناك تباين كبير أحيانا بين باريس وواشنطن حول العديد من الملفات. ظهر التباين أوّلا حول مسألة قواعد ضبط النظام المالي العالمي، ردّا على الأزمة المالية العالمية الراهنة. كان هناك اتفاق بين باريس وواشنطن في عهد بوش، حول ضرورة إعادة النظر جذريا بالنظام الحالي، ووعد أوباما بالذهاب في نفس الاتجاه. وهكذا حلم ساركوزي ب«صوت عال» بقيام الثنائي الأميركي ـ الفرنسي «المستعد لتغيير العالم ودخول التاريخ من أوسع أبوابه».
لكن سرعان ما ظهرت الخلافات في قمّة العشرين للتصدّي لآثار الأزمة الملية العالمية التي شهدتها العاصمة البريطانية لندن مطلع أبريل الماضي. ثمّ ظهرت الخلافات أكثر في قمّة بيتسبورغ، وذلك على خلفية تباين في العمق مع فرنسا وألمانيا اللتين أعطتا الأولوية لقواعد ضبط التعامل المالي العالمي، بينما أولوية أوباما هي النهوض الاقتصادي الأميركي.
وتباين فرنسي ـ أميركي حول أفغانستان. فالرئيسان يتفقان على عدم ترك المجال حرّا لطالبان والقاعدة، لكن ساركوزي لا يريد زيادة عدد القوات الفرنسية في أفغانستان، بينما يتبنّى أوباما استراتيجية زيادة القوات الأطلسية التي تنصح بها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون).
وتباين حول الملف النووي الإيراني. باريس وواشنطن تؤكّدان على «الاتفاق الكامل في وجهات النظر»، لكن باريس تتحفّظ في الواقع على دبلوماسية «اليد الممدودة» التي يتبناها أوباما. أحد مستشاري قصر الإليزيه، قال ما مفاده حرفيا: «إن منحه جائزة نوبل كان خطأ. فسياسة اليد الممدودة حيال بلدان معزولة، لم تلقَ حتى الآن سوى الصدود. ولم يجد سوى الفشل في كوريا الشمالية وإيران».
باريس ترى، باختصار، أن دبلوماسية أوباما والتباطؤ في المفاوضات، يعني كسب طهران للوقت واقترابها أكثر من تصنيع القنبلة. وفرنسا أيضاً هي صاحبة الخطاب الأكثر تشددا حيال إيران في مجموعة البلدان الستة التي تعالج الملف النووي الإيراني. ولم يتردد ساركوزي في التصريح ذات مرّة، أنه لن يصافح أبدا الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد.
وتباين أيضاً حيال الشرق الأوسط. باريس وواشنطن تتفقان على حل الدولتين وعلى ضرورة استئناف المفاوضات، لكن إدارة أوباما تنظر بنوع من التشكك إلى انفتاح ساركوزي الكبير على سوريا، وإلى ما يبدو لها محاولة تعظيم لدور فرنسا في المنطقة على حساب الدور الأميركي.
برود على صعيد العلاقات الشخصية بين أوباما وساركوزي، وتباين في سياسة بلديهما حول العديد من الملفات الدولية.. لكن العلاقات بين الدول تسيّرها المصالح، وليس العواطف.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.