دروس في حدود السياسة
الجمعة سبتمبر 10 2010 – عبد المنعم سعيد
وقفت أتأمل الرئيس الأميركي باراك أوباما في «حديقة الورد» التي ألقى فيها بيانه عن استئناف «عملية السلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكان الرجل مختلفا تماما عما كان عليه منذ عام مضى حينما حضرت مؤتمره الصحافي مع الرئيس مبارك. هذه المرة كانت الشعيرات البيضاء قد انتشرت في الرأس، وظهر الوجه مجهدا، والأهم أن العبارات التي قالها فقدت تلك الحالة من اليقين والحماس الكامن التي كان ينقلها لمستمعيه ويلهب فيهم أحلاما وآمالا. وللحق، فإن الرجل لم يكن هو وحده الذي جرى له ما جرى، وإنما كانت وزيرة خارجيته هيلاري رودهام كلينتون قد فقدت تلك الحالة من اللمعان التي كانت عليها أيام حملتها الانتخابية من أجل الرئاسة الأميركية.
وحده الدبلوماسي جورج ميتشل الذي بقي على حاله منذ وقت طويل، ربما لأنه يمارس الدبلوماسية وليس السياسة؛ أو ربما لأنه موظف يعرف أن الدنيا لها تقلباتها، ونادرا ما تبقى على حال، وبشكل ما فإنه يعرف حدود الإنسان في تغيير التاريخ، وهى المهمة التي يظن السياسي أنه أهل لها.
إن ما حدث لباراك أوباما لم يكن جديدا بالمرة، فقد عاصرناه أيضا مع جورج بوش من قبل، ومن يقارن حال بوش في فترة رئاسته الأولى بفترة رئاسته الثانية سوف يجد فارقا كبيرا حينما انتهت تلك الحالة من الحيوية والاندفاع، لكي يحل محلها التروي والدراسة بعد أن ظهر أن ثمن السياسة فادح. وفي ما تعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، تحول بوش من الاعتقاد بضرورة الإهمال الكامل لصراع ليس له حل، إلى محاولة جادة بدأت في أنابوليس وانتهت إلى مفاوضات مباشرة وضعت نقاطا كثيرة على الحروف. وأوباما يمر بهذه المرحلة حاليا، والفارق بينه وبين سلفه، أن عرض «حدود السياسة» ظهر عليه قبل انتهاء عامه الثاني، بينما احتاج بوش أكثر من فترة رئاسية كاملة. وفى الصراع العربي – الإسرائيلي رأي أوباما – على عكس بوش – أن الصراع ليس مهمّا وتاريخيا فقط، بل إن استمراره يمثل تهديدا للأمن القومي الأميركي. ومع ذلك، فإن القول شيء والفعل أمر آخر، وما إن تدخل إلى دهاليز الاشتباك السياسي، فإن كثيرا من الرصاص سوف يدور حول رأسك، وفى أحسن الأحوال سوف تصاب بإرهاق سياسي بالغ. ومن يطالع مذكرات كل رؤساء الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، سوف يجد أنه على الرغم من كثرة الأزمات والحروب التي تعرضوا لها شرقا وغربا، فإن أكثرها إرهاقا كان صراع العرب والإسرائيليين.
وبشكل ما، فإن مراقبة أوباما تشير إلى أنه يسير في الطريق العكسي الذي سار فيه جورج بوش؛ حيث كان الأخير مؤمنا بالدور الأميركي في تشكيل العالم، وبالقدرة على استخدام القوة العسكرية التي تتمتع بها الولايات المتحدة لكي تحصد غنائم سياسية واقتصادية واستراتيجية على مستوى العالم.
وبعد فترة الرئاسة الأولى ظهر أن كل ذلك كان منفصلا عن الواقع، ومع المأساة في العراق وأفغانستان، وأخيرا الأزمة الاقتصادية التي تمخضت عنهما، لم يكن هناك بد من «الواقعية» للتعامل مع واقع دولي معقد. باراك أوباما جاء من عالم آخر، ومن يدرك الفارق بين تكساس في الجنوب وماساتشوستس في الشمال الشرقي الأميركي؛ فإن خريج جامعتي كولومبيا وهارفارد كان يحمل في وجدانه رؤية الليبرالية الأميركية للعالم حيث تبدو الدنيا كلها أشبه بالشركات المساهمة التي يمكن إدارتها عن طريق التفاهم وعقد الصفقات لكي يستفيد الجميع ويشعر بالسعادة. وفى مثل هذه البيئة، فإنه لا توجد مشكلة غير قابلة للحل، وإن كل ما يحتاجه الناس هو قدر كاف من العقلانية لكي يدركوا أصول المشكلات ويجدوا حلولا لها.
ولكن الواقع لم يكن أبدا رحيما بالرئيس الأميركي، ولم يكن أبدا ما تصوره، ومع الانتخابات النصفية للكونغرس، فإن أوباما ليس لديه الكثير الذي يقدمه للناس. وما عدا قانون الرعاية الصحية الذي أدى إلى انقسام الحزب الديمقراطي نفسه، فإن أميركا تخرج من العراق كما وعد الرئيس، ولكنه يتركها من دون حكومة، وتظهر الديمقراطية فيها ذات قدرة تدميرية هائلة، ولا يوجد فيها من بناء الدولة الكثير. وفى أفغانستان لا يظهر أن الاستراتيجية المطبقة قد سارت كثيرا في تحقيق النجاح، بل إن جبهة الحرب ضد طالبان امتدت لكي تشمل فعليا باكستان الآن. وبعد شهور من الاعتقاد بأن الولايات المتحدة في طريقها للخروج من الأزمة الاقتصادية فإن الأرقام والمؤشرات عادت مرة أخرى لكي تشير إلى اتجاه العودة إلى انكماش آخر. وفى الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن ما بدا أنه التزام صارم بالتوصل إلى حل مر بفشل وقف الاستيطان أولا، ثم تبعه ثانيا فشل المباحثات غير المباشرة في زرع بذور الثقة بين الأطراف، ولم يتبق ثالثا إلا القفز إلى مجهول المفاوضات المباشرة لعلها تحقق معجزة من نوع أو آخر.
وربما كانت نقطة التحول التي جرت لجورج بوش في السابق، إدراكه لحدود القوة العسكرية، بل وحدود قوة الولايات المتحدة ذاتها في العمل وحدها على الساحة العالمية لأنها تقود ولا تقاد. والأرجح أن أوباما قد وصل إلى النقطة المقابلة وهى حدود السياسة وبناء التحالفات الدولية لإدارة عالم مرهق بالأزمات والمطالب والعولمة والمشاعر القومية والدينية المتطرفة في آن واحد. وما قاله أوباما في «حديقة الورد» أن كثيرا من الدول تؤكد له على أهمية قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، ولكنهم ليسوا على استعداد لفعل أي شيء من أجلها، وهو هنا يقصد الدول العربية التي ليست على استعداد للحديث مع الإسرائيليين حول الدولة التي يطالبون بها؛ ينطبق هذا أيضا على الدول الأوروبية وباقي القوى الكبرى الأخرى في العالم التي لم تكن تكف عن لوم الولايات المتحدة لأنها تتحرك وحدها وتريد أن تكون شرطي العالم، فإذا ما جاءهم رئيس لا يريد ذلك وعلى استعداد للتعاون معهم، فإنه لم يجد عونا يذكر.
المدهش في الأمر أن بوش على محافظته المتشددة، وأوباما على ليبراليته الظاهرة، يكادان يلتقيان عند حدود إدارة السياسة بالأيديولوجية التي كثيرا ما تتجاوز إمكانيات التغيير حيث الواقع أكثر تعقيدا وغنى بكثير من قدرة السياسة على التعامل معه. وفي لحظة ما جلس كلاهما أمام مواقف يائسة وعادا إلى درجة من الواقعية السياسية التي تدير العالم كما هو وليس كما نتمناه يمينا أو يسارا.
ولكن ذلك يطرح السؤال: كيف يبدو العالم كما هو؟ وساعتها فإن الحيرة لن تكون أقل عمقا مما هي عليه الآن، ولا يظهر منها إلا لحظات للامتحان والاختبار. واحد منها يمر به باراك أوباما الآن وعنوانه: «مفاوضات نتنياهو وأبو مازن»!
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.