واشنطن والاستفتاء السوداني : التصويت بـ«نعم» أو «لا بأس» ؟! * عريب الرنتاوي
هل يعقل أن “يتورط” رئيس الدولة الأعظم بالقول أن عدم إجراء الاستفتاء في جنوب السودان سيؤدي إلى مقتل ملايين الناس؟…من الذي أبلغه أمراً كهذا ، ومن سيصدق مزاعم خفيفة ورعناء كهذه؟…كيف لأزمة عمرها عشرات السنين ألا تحتمل تأجيلاً أخيراً ، ولبضعة أشهر فقط؟…وكيف للمواعيد والاستحقاقات أن تكتسب كل هذه “القداسة” في السودان ، وأن تنزع عنها كل مظاهر القداسة والاحترام في فلسطين؟…أية ازدواجية هذه ، وأي انحياز للحركة الشعبية ، لم تنجح الدبلوماسية ولا اللباقات واللياقات في إخفائه.
قبل رئيس البيت الأبيض ، كانت رئيسة الدبلوماسية الأمريكية تخرج عن “كياستها” وتتحدث عن نتائج الاستفتاء في الجنوب وحوله ، قبل إجرائه ، فالسيدة هيلاري كلينتون بدأت مبكراً الحديث عن مرحلة ما بعد انفصال الجنوب ، وهذا أمر أقل ما يمكن أن يقال فيه ، أنه غير لائق ، ويعقّد الأمور بدل أن يساعد على حلها ، ويلوّث صورة الولايات المتحدة ، بدل أن ينزع عنها الشوائب المتراكمة فوقها في العراق وفلسطين وأفغانستان.
وبعد تصريحات أول رئيس أمريكي أسود ، جاءت تصريحات أول مندوبة سوداء للولايات المتحدة في مجلس الأمن ، السيدة سوزان رايس ، محذرة من مغبة تأجيل الاستفتاء ، من دون أن تكلف نفسها عناء الاستماع لمختلف وجهات النظر السودانية ، بل أنها قادت فريق مجلس الأمن في رحلة إلى أدغال السودان وصحاريه ، بهدف واحد أوحد: تقديم الدعم لسيلفاكير ميارديت في مسعاه لنشر قوات دولية بين شطري السودان الشمالي والجنوبي ، وهو أمر تعارضه الخرطوم التي ما تزال تنظر للجنوب بوصفه جزءا من السودان ، خاضعا لسيادته ، ويحتاج أمر فصله عن بقية الوطن ، بجدار من القوات الدولية ، إلى قرار مركزي من حكومة الخرطوم ، وليس لـ”رسالة تمنيات” من حكومة جوبا.
والحقيقة أن الخطاب الأمريكي من الأزمة السودانية ، يشبه إلى حد كبير خطاب واشنطن من قضايا الصراع العربي الإسرائيلي ، هنا وهناك انحياز دائم وثابت لفريق ضد آخر ، يصل في كثير من الأحيان إلى حد الدفاع عن جرائمه وتغطيتها وتبريرها ، حتى وإن أدى الأمر لتسويق وتسويغ سياسة الإفلات من العقاب.
فالحركة الشعبية في جنوب السودان تخوض حربا ضد خصومها من الجنوبيين ، بشهادة أحد خصوم نظام الإنقاذ الصادق المهدي ، وليس الناطقين بلسان هذا النظام…والحركة الشعبية مارست أبشع أنواع “البلطجة” في الانتخابات الأخيرة في مناطقها ، وهو أمر لم تلحظه واشنطن أبداً…والحركة الشعبية تنتهك الاتفاقيات المبرمة مع الخرطوم وتتجه لخطوات أحادية في الجنوب وأبيي ، من دون أي تعليق أو “تهديد” أمريكي لها بالويل والثبور وعظائم الأمور ، كما تفعل كلما اختلفت مع نظام البشير أو صدر عنه ما يزعجها.
الخلاصة ، أن الولايات المتحدة تريد تفتيت السودان ، ومن هذا المنطلق فإن لسان حالها يقترح التصويت بـ”نعم” أو “لا بأس” لصالح الانفصال ، وهي لن تدخّر جهداً لإنشاء “دولة الجنوب المسيحية الديمقراطية” على غرار “دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية” ، والأدق أنها – واشنطن – تريد خلق “إسرائيل ثانية” في جنوب السودان ، تجعل منها قاعدة لحربها على “الإرهاب” ورأس جسر أمني وحربي واستخباراتي لإسرائيل في عمق أفريقيا…دولة تخدم كجدار فاصل بين شمال أفريقيا العربي من جهة ودول جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية غير العربية من جهة ثانية ، تماما مثلما جاء قيام إسرائيل لتكون حاجزاً يحول دون إدامة التواصل والاتصال بين الجناحين الأفريقي والآسيوي للأمة العربية.
ولقد بتنا على يقين ، بأن واشنطن لن تكترث بـ”مصداقية” الاستفتاء المنتظر طالما أنه سيفضي إلى انفصال الجنوب ، بيد أنها ستقيم الدنيا ولن تقعدها إن حصلت المفاجأة المُستبعدة ، وصوّت الجنوب لصالح الوحدة ، عندها ستكون قضية المصداقية مهمة تماماً مثلما كانت “مصداقية” الانتخابات الإيرانية الرئاسية الأخيرة ، مهمة بدورها.
ليس المهم أن تكون هناك ديمقراطية راسخة أو ناشئة ، ليس المهم أن تُحترم الإرادة الحرة والطوعية للشعب وجمهور الناخبين (هذه الإرادة لم تحترم في فلسطين) ، ليس المهم أن تكون هذه الدولة أو المجموعة فاسدة أم لا (ليس ثمة ما أكثر فساداً من كرزاي ومجموعته ، وفساد السلطة الفلسطينية اليوم ليس أقل من فسادها زمن الراحل ياسر عرفات) ، المهم أن تظل النظم الجاثمة على صدور هذا المجتمعات والدول ، صديقة لواشنطن وحليفة لحليفتها إسرائيل ، وعندها يمكن أن يكون الفساد والتزوير والديكتاتورية ، وجهات نظر لا أكثر ولا أقل ، أو مجرد “سوء تفاهم” بين أصدقاء ينتمون إلى “معسكر الأخيار”.
الموقف الأمريكي من تطورات الملف السوداني ، فيه من الخفّة والانحياز السافر وازدواجية المعايير والحسابات الأنانية ، ما يكفي لشطب كل ما حاولت هذه الإدارة أن تدخله من تحسينات على سمعة واشنطن وصورتها وصدقيتها طوال ما يقرب من عامين ، وبعد ذلك يأتيك من يسأل: لماذا يكرهوننا ، ولماذا كل هذا العداء للولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي ؟،.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.