When “Vision” Governs a Country

<--

عندما تحكم «الرؤية» بلدا!

بمناسبة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس سألت صديقي الأميركي: ما الذي جرى للرئيس أوباما؟ حتى عام واحد مضى كان يبدو كما لو كان نبيا جاء من قلب التاريخ لكي يعيد إصلاح العالم من جديد، فيزيح أخطاء سلفه، فيخرج من العراق وأفغانستان، ويعيد بناء التحالف الغربي على أساس من المشاركة بدلا من الانفراد، ويعيد الاقتصاد العالمي إلى سابق حاله من النمو، وحتى وافته الرغبة والأمل في حل الصراع العربي – الإسرائيلي كواحدة من خطوات علاقات بناءة بين العالم الإسلامي والغرب. أجاب صديقي معلقا أن أوباما كان فعلا مثل الأنبياء حاملي الرسالات، ولكنه عندما سار بها لم يجد أحدا خلفه ممن طالبوا دوما بوجود «الرؤية» والنية الصادقة لكي يجعلوها واقعا.

الساسة فجأة وجدوه مثاليا أكثر مما يجب، وجنحوا إلى أن مشروعه للغاية الصحية ربما كان كثيرا على يسار ما يهضمه الأميركيون، وبعد أن مر المشروع كان الرجل قد استنفد كثيرا من أرصدته. والجنرالات خذلوه فلا كسبوا معركة، ولا ربحوا سلاما، في بلدين بلغ التعقيد فيهما مداه، ليس فقط بالنسبة للأميركيين ولكن أيضا للحلفاء الذين أظهروا إرهاقا مبكرا ماليا وعسكريا حتى بدت الشراكة نوعا من الانفراد المكلف والمقنع. والاقتصاديون في الشركات الكبرى بدوا أنهم أكثر استعدادا للجري وراء أرباح مبكرة من القبول بالصبر حتى يأتي النجاح الدائم، فتعرض الاقتصاد الأميركي لنكسة أخرى قبل أن يفيق من نكسته الأولى.

والعرب والإسرائيليون كانوا يريدون سلاما، ولكن أحدا لم يكن على استعداد لدفع ثمن، فلا كان هناك عربي على استعداد لكي يجعل إسرائيل تشعر بنوعية السلام القادم، ولا كان هناك إسرائيلي لا يعتقد في أنه يمكن الحصول على المستوطنات والسلام معا. وعلى عكس كل ما تصوره بعد خطاب القاهرة فإن المسلمين والغربيين أظهروا من دلالات الكراهية أكثر من سمات القبول والرضا.

فاجأتني الإجابة حيث كان المثال السياسي الذي يتمناه البشر هو تلك الحالة من السياسيين الذين تكون لهم «رؤية» – خيرة بالطبع – ومعها قدرة على الحشد والتعبئة، فيمشي الناس وراءها حتى يصلوا إلى غد مشرق سعيد أو أكثر إشراقا مما يعيشون فيه، أو أقل تعاسة مما يعرفونه. وعلى أية حال لم يمض وقت طويل حتى تبتعد تلك الصورة الأخاذة التي كان عليها حال واشنطن ساعة فوز أوباما، ووقت توليه للمنصب، ولا ضاع من الذهن تماما يوم حضرت خطابه في جامعة القاهرة وكيف وصلت الرسالة لكل من له عنوان. وبالتأكيد كان هناك دوما نوع من الشك الذي ينتاب الأكاديمي والكاتب السياسي، ولا بد أن التعليق الذي يقول إن الحال من الجودة بحيث لا يمكن أن يكون حقيقة؛ قد أتى بنفس الرد الساخر أنه ما دام الحال كذلك، فمن المؤكد أنه ليس حقيقيا على الإطلاق!.

الحوار مع الصديق أعاد الذهن مرة أخرى إلى حال «السياسة» بوجه عام، وفي بلادنا بوجه خاص، وفي الأولى كان هناك دائما شك في إمكانية هندسة العالم وفقا «لرؤية» خاصة، وقد انتهى عهد الأنبياء والرسل على أي حال. وكان جورج بوش الأب يقول دائما بمزيد من السخرية والحيرة: «ما حكاية هذه (الرؤية) التي يتحدثون عنها؟» حيث كان الرجل متهما بأنه ليس لديه رؤية معروفة تجاه الأمور المطروحة على الساحة العالمية والأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة. وشعر الرجل بسخافة بالغة عندما وجد نفسه يتكلم بحالة «الرؤية» عندما تحدث عن «النظام العالمي الجديد». كان جورج بوش الأب – وعلى عكس ابنه فيما بعد – رجلا عمليا طوال حياته، التي طاف فيها الدنيا سفيرا في الصين ورئيسا للمخابرات ونائبا للرئيس ثم رئيسا لأقوى دولة في التاريخ، وظل اعتقاده دائما أن السياسة تسير وفق ظروفها العملية حيث تنبع الاختيارات من الواقع وليس من رؤية مسبقة. وربما كان هيلموت شميت المستشار الألماني الأسبق أكثر شجاعة حينما سخر ممن ألحوا عليه لكي يكون لديه رؤية قائلا أنه إذا كانت الرؤية بمثل هذه الأهمية فإن عليهم استشارة طبيب؟.

وفي النهاية هل كان أوباما نقيض جورج بوش الابن، أم أن كليهما – كلٌ على طريقته – كان محكوما برؤية سرعان ما تبين أن التطبيق يسخر منها، حيث اتسمت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش بسيادة الفكر اليميني المحافظ المتطرف الذي يبني رؤيته للعالم على ما أفرزته جماعة مغمورة في الفكر الأميركي عرفت بجماعة القرن الأميركي الجديد وكانت لها «رؤية» غلبت عليها عدة سمات، من أبرزها: الآيديولوجية كأساس للعلاقات الدولية، حيث رأت إدارة بوش أن أحد مصادر تهديد الولايات المتحدة قادم من الدول التي تتعارض قيمها مع القيم والمبادئ الأميركية، وخاصة الدول الشيوعية وغير الديمقراطية. وساد اتجاه لدى المحافظين الجدد بأهمية إحداث تغيير في النظم الحاكمة التي تنتمي لدول العالم الثالث، وبصفة خاصة الدول العربية والإسلامية، لأن سياستها الداخلية وغياب الديمقراطية بها أدى إلى نشوء الإرهاب.

ومن هنا، كان استخدام الأداة العسكرية «سياسة العصا» كإحدى أدوات السياسة الخارجية التي تمحورت في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 حول الحرب ضد الإرهاب (فيما يعرف بمبدأ بوش)، وهو ما يفسر شن الولايات المتحدة حربي أفغانستان لإسقاط نظام طالبان في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، والعراق لإسقاط نظام صدام حسين مارس(آذار) 2003. وقد حدد بوش ملامح مبدئه ضد الإرهاب في 20 سبتمبر 2001، حيث ذكر أن كل دولة في أي منطقة في العالم عليها أن تتخذ قرارا سواء أن تكون معنا أو ضدنا (أي مع الإرهابيين)، وأنه من الآن فصاعدا فإن أي دولة تستمر في توفير الحماية والمأمن للإرهاب سوف تعتبر نظاما معاديا للولايات المتحدة. كما مارست هذه الإدارة ازدواجية المعايير فيما يتعلق بخلط الأوراق بين المقاومة المشروعة والإرهاب، وخصوصا بالنسبة للقضية الفلسطينية، حيث رأى التيار المحافظ أن السلطة الفلسطينية تشجع الإرهاب، ومن ثم يجب على الولايات المتحدة ألا تقف في وجه إسرائيل أو تمنعها من إتمام حملتها لأن حملتها في فلسطين شبيهة بحملتها في أفغانستان. وبدأ هذا التيار يطرح أفكارا من قبيل السيطرة على دول العالم في إطار مشروع «القرن الأميركي الجديد»، فضلا عن التدخل لإعادة بناء الدول وهو ما عرف بالهيمنة الحميدة للولايات المتحدة.

كانت أفكار وأدوات بوش عنيفة وغبية في أحيان كثيرة، أما أفكار وأدوات أوباما فقد كانت ناعمة وسخيفة في أكثر الأحوال، ولكن مكمن الخطر لدي كليهما، أنهما كانا سجينيْ «رؤية» من نوع أو آخر كان الواقع العملي أكثر تعقيدا وتركيبا منها.

About this publication