The WikiLeaks that Many Know

<--

ويكيليكس الذي يعرف الكثير

بقلم: سريرام تشوليا

مع إطلاق الدفعة الثالثة من الوثائق السرية بشأن العلاقات الخارجية والعمليات العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخري، يكون مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان أسانج، قد هز ثانية كيان المؤسسات العالمية.

يكاد الاسترالي أسانج البالغ من العمر 39 عاما، وهو ناشط معروف في مجال المعلوماتية وقرصان انترنت سابق مدفوع بايديولوجية فوضوية، أن يتجاوز أسامة بن لادن قدر تعلق الأمر باحتمال تحوله إلي أكثر الناس المطلوبين للولايات المتحدة. في هذا الصدد، يبدو، علي نحو كبير، توقيت قرار إصدار مذكرة إلقاء القبض علي أسانج، التي أصدرها الانتربول بطلب من الحكومة السويدية لتورطه المزعوم في اعتداء جنسي، ذي طبيعة سياسية.

نتيجة لهذا المناورة التي تهدف إلي تحويل الأنظار، فان صورة هذا الصحفي الذي يحاول تحذير العالم قد تحولت إلي صورة صحفي تحقيقات يتحتم إسكاته ووقف نشاطه تحت أية ذريعة ممكنة.

من الناحية الفعلية، ينادي المحافظون في الولايات المتحدة بهدر دم أسانج، ويصورونه علي شكل شخص شرير معارض للسلطة وعدو للنظام والاستقرار الدوليين. غير أن الانتقاد المتواصل لأسانج من جانب كبار المسؤولين وعلي رأسهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون يفتقر إلي المصداقية لأن أسانج لا يخضع لالتزام أخلاقي يجبره علي حماية المصالح الأمريكية، أو مصالح الحلفاء المنخرطين في الحروب. إن المطالبة بمعاقبة موقع ويكيليكس أو تكميم أفواه المسؤولين عنه، بما في ذلك رئيسه المتمرد والمتواري عن الأنظار، بحجة أن تصرفاتهم تهدد حياة الجنود الأمريكيين والمتعاونين المحليين معهم في العراق وأفغانستان وغيرها من البلدان هو بمثابة الزعم بأن الولايات المتحدة تضطلع بكل هذه الحروب من أجل المصلحة العامة ولخدمة العالم بأسره.

كما أن اعتبار أسانج شخصا يمثل تهديدا خطيرا للممارسات والأصول الدبلوماسية بحد ذاته هو أمر بعيد عن الحقيقة لأن كثافة وعمق وأسلوب التعامل المتراكم ما بين الدول خلال قرون عديدة لا يمكن أن يُعكر ببضعة مئات الألوف من الجزئيات. وإن كان لا بد من القول، فان الكشف عن هذه الوثائق يهدف إلي وضع حد للحروب الأمريكية من خلال زرع الشكوك في أذهان المواطنين الأمريكيين بشأن الوجهة التي يدفعها إليهم سياسيوهم والمعنيون بالشؤون الأمنية.

إذا كان من الممكن “صناعة” السكوت، علي حد القول المشهور للباحث الأمريكي نعوم تشومسكي، فإنه من الممكن أيضا تعكير صفو هذا السكوت علي أيدي معارضين واعين يتحلون بالجرأة. يعد أسانج علي نحو رئيسي أحد نتاجات الحركة المناهضة للحرب ممن تمكنوا من تسخير القاعدة التكنولوجية للانترنت ومزجها بدهاء الأجهزة الاستخبارية بغية فضح الأسرار من خلال عناصر بشرية مزروعة في الأوساط العسكرية والدبلوماسية الأمريكية. تجدر الإشارة أيضا إلي أنه في ظل غياب تعبئة جماهيرية مستدامة قادرة علي إرغام إدارة باراك أوباما علي وقف الحرب الافغانية الباكستانية، فإن اسانج يعد نموذجا غريبا لظاهرة روبن هود برفقة “اتباع روبن هود” المؤمنين بقضيتهم ممن يعولون علي امكانيات الفضاء السيبراني.

في سياق متصل، يسود الاعتقاد بأن محلل المعلومات الاستخبارية، نائب العريف الأمريكي برادلي ماننغ، المتهم بتزويد ويكيليكس بالوثائق السرية بشأن المهمات العسكرية الأمريكية المثيرة للجدل في العراق، والمتهم بتزويد كمية مشابهة من الوثائق ذات صلة بطريقة إدارة الحرب في أفغانستان، يرتبط بشركاء مدنيين يعملون في الأجهزة الأمنية الأمريكية. ويعتقد أيضا أن الكم الهائل من وثائق ويكيليكس الأخيرة التي تضمنت برقيات ومذكرات دبلوماسية قد وصلت إلي فريق أسانج من خلال نائب العريف ماننغ وربما من أشخاص داخل الإدارة ممن سئموا من تصرفات أقرانهم الذين يديرون مقادير الدبلوماسية الأمريكية في جبهات حساسة مثل الشرق الأوسط وجنوب آسيا.

إن أسانج يعرف الكثير لأن هناك أمريكيين داخل أجهزة الدولة ممن يمقتون التدخلات العسكرية، التي يبدو أن لا نهاية لها، في الجبهة الافغانية الباكستانية والضغوط التي تمارس للتورط في حروب أخري.

بفضل ويكيليكس، نعرف الآن، أكثر من ذي قبل، أن باكستان هي حليف لا يمكن الاعتماد عليه من قبل الولايات المتحدة كما كان يعتقد علي نحو واسع. وإن كان قد بقي أي شخص تراوده الشكوك بشأن استحالة كسب الحرب الأفغانية الباكستانية، فما عليه سوي أن يقرأ ما يقوله كبار المسؤولين في جلساتهم الخاصة والعامة، علي حد سواء، بشأن اللعبة المزدوجة لـ “شريكهم الاستراتيجي” في إسلام آباد.

أكد الأخطاء التي ارتكبها بعض المراقبين والمعلقين منذ تفجر فضيحة ويكيليكس هي تقليلهم من شأن هذه المعلومات الثمينة وقولهم إنها “لا تحمل أي جديد” يمكن أن يغير التفاهمات التقليدية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة والخدع السياسية التي يستخدمها كبار رجل السياسة.

ينبغي للمتعطش إلي الحصول علي “الأخبار العاجلة” والاكتشافات المثيرة التي تجعل من الحقيقة تبدو وكأنها أغرب من الخيال ألا يخفي الهدف الأساسي الذي يسعي الي تحقيقه فرسان أسانج والمتمثل بسلب قوة المسيطرين علي السلطة الذين يجيدون الخداع، وتمكين عامة الشعب الذين كانوا دائما في وضع غير مؤات نسبيا بسبب غياب المعلومات الكاملة عنهم. يمثل موقع ويكيليكس واحدا من وسائط حديثة عديدة من عصر المعلومات اطلقت مؤخرا والتي من خلالها تتمكن المجتمعات أن تراقب النخب في الدولة.

كما يُعد موقع ويكيليكس واحدا من عدد من الوسائل التي اطلقت حديثا في عصر المعلومات والتي يتسني من خلالها للمجتمعات أن تطلع عن كثب علي ما تمارسه النخب السياسية في البلاد. وبموجب هذه الوسيلة، تكتسب الرعية فرصا أفضل لفهم مسألة ما مثل الحروب البغيضة، ومن ثم الدخول في تحرك جماعي في حين كانوا فيه من قبل غير قادرين علي التدخل بحجة أنهم غرباء “غير مطلعين” وليس بوسعهم أن يتوصلوا الي القرار الصائب في مسائل تتعلق بالمصالح الوطنية أو الدولية الكبري.

إن التصدعات الحاصلة في أوساط النخب الأمريكية العسكرية والكوادر الوسطية، علي حد سواء، بشأن قضية الحروب والتهديد بشن الحرب، قادرة اليوم علي التنفيس عن نفسها واختراق حاجز السرية الذي كان قائما بفضل موقع ويكيليكس. كما أن التحولات التاريخية نحو الديمقراطية والمجتمعات القادرة علي التحكم بمستقبلها لا تتحقق إلا عندما تحدث هوة بين السلطات، وعندما تتحالف الأجنحة المعتدلة في الحكومة مع عناصر التحول في المجتمع المؤمنة بقضيتها.

في عصر يتعزز فيه دور “الأصدقاء” والشبكات من خلال الانترنت، فإن المسار الذي شرع فيه أسانج لا يعد مسارا جرميا أو غير شرعي بل هو اندفاع يستحق الثناء للوصول إلي مشاركة اجتماعية أكبر في مسائل تتعلق بمصير المواطن الاعتيادي.

لم يلجأ موقع ويكيليكس علي الاطلاق لبيع أو مقايضة بنوك معلوماته السرية الثرية إلي أولئك القادرين علي تسديد ثروات طائلة من أجل الحصول علي مثل هذه المواد القادرة علي ابتزاز الآخرين. إن البوح عن “المكتوم” في الفضاء المفتوح علي نحو لا يسعي إلي تحقيق الربح، ورفع مستويات المساءلة الاجتماعية للمؤسسات الحكومية، يجعلان من جوليان سانج رجلا يستحق الحماية وليس الملاحقة القضائية.

سريرام تشوليا: نائب عميد كلية جندال للشؤون الدولية في سونيبات، الهند

About this publication