The World After WikiLeaks

<--

عالم ما بعد «ويكيليكس» * أسامة الشريف

المطلوب رقم واحد من قبل الولايات المتحدة الاميركية وبعض حلفائها اليوم ليس اسامة بن لادن وانما الاسترالي جوليان اسانج ، مؤسس موقع “ويكيليكس” ، الذي عرى الديبلوماسية الاميركية بعد نشره آلاف البرقيات المتبادلة بين سفارات واشنطن في الخارج والخارجية الاميركية. اسانج اليوم مطارد من قبل الانتربول على خلفية اتهامه باعتداء جنسي في السويد. لكن بعض كبار السياسيين الاميركيين طالبوا برأس الرجل واعتبروه ارهابيا وعدوا للولايات المتحدة تجب تصفيته، اضافة الى ذلك فان الموقع يتعرض لهجمة شرسة بهدف ايقافه نهائيا.

هذه دعوات يأخذها اسانج على محمل الجد. فهو قد تحدى الدولة الاقوى في العالم وسبب لها حرجا كبيرا رغم ان الرأي العام الاميركي حتى الآن يتعامل مع القضية من باب حق الحصول على المعلومة وبخاصة ما يتعلق بتورط اميركا في افغانستان والعراق. على الارجح ان المكيدة القانونية التي نصبت لاسناج ستنجح في اسقاطه في حبائلها. اما قتله او تصفيته ، كما طلب بعض السياسيين الاميركيين ، فأمر مستبعد. سيجعل ذلك منه شهيدا وبطلا ، وسيدفع ذلك بالعديد من المغامرين لاقتفاء اثره والكشف عن المزيد من التسريبات الديبلوماسية.

ما الذي اقترفه اسانج حقا؟ لقد حقق سبقا بتسريبه ملايين الوثائق السرية والخاصة المتعلقة بحربي افغانستان والعراق واسلوب ادارة السياسة الخارجية الاميركية. وفي اعتقادي ان الضرر الذي سببه تسريب وثائق الحرب اكبر بكثير من الكشف الأخير عن ملاحظات السفراء الاميركيين وانطباعاتهم عن الدول والرؤساء والسياسيين في مناطق شتى من العالم. صحيح ان مضمون بعض هذه البرقيات احرج الادارة الاميركية وسلط الضوء على رؤية هؤلاء السفراء لما يجري في بؤر الصراع المشتعلة في كوريا الشمالية وايران وافغانستان وفلسطين ، لكن وفي نهاية الأمر فان هذا ما يفعله الديبلوماسيين اينما كانوا. هم يرسلون تقارير وملاحظات وانطباعات تتعلق بالبلد الذي هم فيه. ولا اعتقد ان الديبلوماسي الفرنسي أو الانجليزي أو الصيني يتصرف بشكل مغاير. جريمة “ويكيليكس” انها فضحت هذا الدور السري للعامة وجعلت من عمل الديبلوماسيين في المستقبل أمرا صعبا ، فالثقة والسرية والخصوصية هي اعمدة العمل الديبلوماسي وبدون ذلك يتحول دور السفير أو الملحق الى نشاط بروتوكولي لا فائدة منه.

تثير قضية “ويكيليكس” عدة امور جدلية منها حق الدولة ، اي دولة ، في سرية التراسل والتواصل ما بين سفرائها وخارجيتها بدون اقتحام لتلك الخصوصية من قبل امثال اسانج وموقعه. وقد اثيرت اسئلة حول ان كان ما يفعله اسانج يقع ضمن صلاحيات الصحفي خاصة وانه يقوم بالتسريب لا التعليق أو الاستقصاء. منطق اسانج واضح في هذا المجال ، فهو يريد فضح سياسات الدول الكبرى وجرائمها وانتهاكاتها. والصحيح انه قطع شوطا مهما في هذا المضمار. فلولا وثائق “ويكيليكس” المسربة لما عرفنا تفاصيل جريمة قتل مدنيين عراقيين مدنيين وصحفيين بدم بارد من قبل مروحية اميركية في بغداد. ولولا تلك الوثائق لما تأكدت نظريات بان عدد القتلى المدنيين في العراق يفوق كل الارقام الرسمية المعلنة. هذه معلومات قد تكون اساسا لاتهامات باقتراف جرائم حرب في العراق في المستقبل.

اما الأمر الثاني فيتعلق بحق اي دولة في حماية اسرارها بدافع الأمن القومي. ونعرف ان هناك معلومات ومراسلات تتعلق بالحرب الباردة وما قبلها لا تزال تتمتع بالسرية ولن يتم الكشف عنها في المدى المنظور لخطورتها وتأثيرها على الرأي العام. لكن ذلك لا يمنع الصحافة الحرة من محاولة الكشف عن ملابسات غامضة تتعلق باحداث خطيرة. ومؤخرا كشفت الصحافة عن وجود مجرمي حرب المان في اميركا ، بمعرفة الحكومة الاميركية. وفي الايام الماضية تم الكشف عن تفاصيل لم تنشر من قبل تتعلق بمجازر ارتكبها الجيش الروسي في الشيشان وغيرها. وفي اوائل السبعينات تحدت “النيويورك تايمز” الادارة الاميركية ونشرت ما سمي بوثائق البنتاغون حول الحرب في فيتنام وكذب ادارة الرئيس جونسون على الشعب الاميركي. ويذكر بعضنا تسريبات شخص متنفذ في ادارة نيكسون اطلق عليه لقب “الحلق العميق” اعتمد عليه كل من الصحفيين بوب وودوارد وكارل بيرنستين للكشف عن ملابسات فضيحة “ووتر غيت” التي اطاحت بالرئيس. وبعد واحد وثلاثين عاما كشف النقاب عن اسمه وتبين انه كان مديرا رفيعا في “الاف. بي. آي”.

اين هو الخط الفاصل اذن بين دور الصحافة ومسؤوليتها في الكشف عن فساد الدولة وبين حق الدولة في حماية اسرارها باسم حماية الأمن القومي؟ ان مسألة “ويكيليكس” تثير هذه القضية الخلافية التي لا يستطيع شخص واحد الفصل فيها. اما السؤال الآخر فهو: هل ضرر تسريبات “ويكيليكس” اكبر من فائدتها؟ وهل دور الصحفي ، اخلاقيا ، حماية اسرار دولته ام الكشف عنها اذا كان ذلك يخدم حق المجتمع في معرفة الحقيقة ومحاسبة حكومته على تجاوزاتها؟ الذين يدعون لقتل اسانج يقدمون وجها بشعا ومرعبا للسياسة الاميركية. وهم يسيئون الى بلادهم في المقام الأول. من حق اي دولة حماية اسرارها كما انه من حق الصحفي الحر الكشف عن هذه الاسرار وتقديمها للرأي العام الذي هو الحكم الاخير في هذه المسألة. وعندما نتحدث عن حربين طويلتين في كل من العراق وافغانستان فان من حق الرأي العام معرفة التفاصيل الخفية.

About this publication