أخذ على المحافظين الجدد، عبر ولايتي الرئيس السابق جورج بوش، أنهم ايديولوجيون. أي أنهم وضعوا أهدافاً لسياستهم الخارجية استناداً الى تصورهم الخاص للعالم، ومنه منطقتنا. وكان غزو العراق ذروة تطبيق هذا التصور.
وافترض الديموقرطيون الذين جاؤوا الى الحكم، عبر الرئيس باراك أوباما، أن مجرد فك الارتباط العسكري المباشر مع العراق يعني تصحيح النهج الأيديولوجي السابق، ويعني تصحيح الصورة الأميركية المتدهورة في منطقتنا حيث تفترض الولايات المتحدة أن لها مصالح قومية حيوية، خصوصاً في مجال الطاقة.
وجرت رهانات عربية على قدرة إدارة أوباما على الخروج من النهج الأيديولوجي المتعجرف لسلفه، وعلى انفتاحها الفعلي على هموم شعوب المنطقة التواقة الى ديموقراطية فعلية وتوزيع عادل للثروات، وقبل ذلك تحريك عجلة اقتصاد منتج يمكن أن يفرز قوى حية معنية بالاستقرار واحترام دولة القانون. كما جرى رهان على قدرتها أن تحمي حقوق الشعوب، ومنها الشعب الفلسطيني الرازح تحت احتلال الحليف الأميركي، والعمل الجاد لردع العدوان الإسرائيلي عنه وإجبار إسرائيل على احترام الحق الوطني والإنساني للفلسطيني في أرضه.
لم تطل كثيراً هذه الصورة الوردية لما يمكن أن تفعله إدارة أوباما. إذ سريعاً ما اصطدمت بإسرائيل وتراجعت تراجعاً مذلاً أمامها، مستهينة بالحد الأدنى من حقوق الإنسان الفلسطيني وتطلعه الى حياة كريمة في دولة مستقلة. لا بل ألغت، هنا، مفهوم حقوق الإنسان كقيمة ينبغي الدفاع عنها في أي مكان، وتركت الحق الفلسطيني أمام العنف الإسرائيلي العاري. ودافعت عن هذا العنف في أشكاله المختلفة، الجسدية والاقتصادية والسياسية.
صورة الموقف الأميركي من هذا الحق أصيبت بمقتل، ليس فقط لدى شعوب منطقتنا وإنما أيضاً على مستوى السياسة الخارجية الأميركية عموماً. ويأتي اليوم الدفاع عن حقوق الإنسان، لمناسبة الأحداث في تونس ومصر، في محاولة لإعادة تلميع هذه الصورة.
بالتأكيد لا يمكن الدفاع عن ممارسات السلطات العربية عموماً، وفي تونس ومصر خصوصاً. لكن ظروفاً وعوامل عدة جعلت من البلدين مسرحاً للصدام مع السلطات، وهي ظروف وعوامل اختلط فيها سوء الإدارة والفساد والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان والفشل الاقتصادي وانغلاق آفاق المستقبل، مع الصراعات الأيديولوجية الخفية على السلطة ومواردها.
تتخذ هذه المطالب والتطلعات الشعبية شكل الصدام مع السلطة القائمة، وذلك بسبب انسداد مزدوج، انسداد السلطة وانقطاعها عن الواقع في كل أوجهه، وانسداد حركة الاحتجاج وانقطاعها عن واقع السياسي والدولة. ولهذا غابت عن الواجهة قيادة سياسية لحركة الاعتراض وكان العنف وسيلة وحيدة في الاتجاهين، وصولاً الى ممارسات رعاعية في بعض الأحيان.
وهنا جاء التدخل الأميركي باسم حقوق الإنسان، وعلى نحو يعيد الى الأذهان ما كانت تفعله واشنطن في ظل الحرب الباردة، عندما تتحدث عن الشعوب داخل الستار الحديدي. حصل ذلك في تونس ويحصل الآن في مصر. ولتصبح حقوق الإنسان أداة في سياسة وليست قيمة لذاتها. فباسم هذه الحقوق جرى ترتيب خروج بن علي من السلطة لمصلحة وضع تضبطه المؤسسة العسكرية التونسية. كما يظهر أن وضعاً مماثلاً قد يكون قيد التصور في مصر.
ومع تأكيد الفوارق بين التجربتين، تريد الولايات المتحدة أن تضمن تحالفاً مع أي صيغة مقبلة للحكم بعدما اعتبرت أن الصيغة الحالية باتت مهددة، وليس مثل حقوق الإنسان أن تكون عنوان هذه السياسة.
لكن الصيغة المتصورة لحياة ديموقراطية لاحقة تفتقد أي أساس داخلي لها في ظل انعدام وجود قوى اقتصادية منتجة داخلية صاحبة مصلحة حقيقية في الاستقرار ولا تتأثر مصالحها بفعل تداول السلطة. وسيتكرر في الحالين مع أي سلطة جديدة صعود نخبة منتفعة من ريع السلطة. ولا يكون أمام المؤسسة العسكرية، سواء كانت منفردة أو متحالفة مع قوى إسلامية آخذة في التصاعد، والتي أفترض يوماً أنها تحمي الاستقرار ألا تكرار تجربة السلطة السابقة في أحسن الأحوال، مع كل أهوالها التي دفعت الناس الى الشوارع. أما حقوق الإنسان التي ترفع الولايات المتحدة شعارها حالياً فلا هدف لها سوى حجز موقع نفوذ في السلطة المقبلة.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.