About the West & Its Politics

<--

عن الغرب وسياساته

في كل مرة يشهد العالم فيها حدثاً كبيراً، يعلن قادة الغرب أنهم بوغتوا بوقوعه، ويحمّلون أجهزتهم المسؤولية إما عن حدوثه أو عن عدم علمهم المسبق به . في الحالتين، تمرّ السياسات الغربية بمرحلة من التخبط، تقوم جوهرياً على ردود الأفعال أكثر مما تستند إلى منظور صلب ومعارف واضحة، وبالتالي إلى خطة متماسكة تعرف ما تريد وكيف تبلغ أهدافها .

هذا ما حدث غالباً عند وقوع تطورات كبرى: من الثورة الروسية عام ،1917 إلى الثورة الإيرانية عام 1978/،1979 إلى أحداث العالم العربي الأخيرة والراهنة، التي لا تزال جارية تحت أعيننا . وقل الشيء نفسه عن حروب ومذابح كثيرة وقعت هنا وهناك، ربما كان أشهرها وأكثرها مأساوية في العصر الحديث مجازر رواندا، التي سقط فيها قرابة مليون إنسان خلال أقل من عام، قيل يومها إن أجهزة الغرب وسفاراته ومبعوثيه المختلفين، من مدنيين وعسكريين، سريين وعلنيين، لم يكونوا على علم بوقوعها، أو لم يتوقعوه بصورة مسبقة، رغم وجود جيوش وبعثات سياسية أوروبية في المنطقة أو بقربها .

ومن يراقب أحداث أيامنا الحالية، يجد أن الغرب أساء دوماً تقدير الحقائق، ومارس سياسات اتسمت بجهل الوقائع، وأنه تعامل مع العرب خلال السنوات العشرين الأخيرة انطلاقاً من أحكام مسبقة أكثر مما نظر إليهم في حياتهم وواقعهم، لذلك تسود صحافته ووسائل إعلامه دهشة حقيقية مما يحدث اليوم، ويسيطر على مواقفها المعلنة عجز فاضح عن فهمه، يعبّر عن نفسه في تقلب السياسة الأمريكية من ساعة لأخرى، رغم جسامة التطورات وأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لها قبل كل شيء، فمن المطالبة برحيل مبارك الفوري إلى المطالبة بإشرافه على مرحلة الانتقال، ومن الإشادة بدور الجيش إلى التخوف منه، ومن تعبيرات جزئية عن إدراك حقيقة ما يجري بالنسبة إلى مصالح أمريكا و”إسرائيل” إلى التخوف منه والذعر من بعض جوانبه . . في سلسلة تناقضات يستغرب المتابع وقوعها في سياسات دولة أعلنت نفسها وصية على عالم، يبدو جلياً أنها تجهل تقريباً كل شيء عنه، تبدي مواقفها حياله قدراً فظيعاً من البلبلة والتناقض، فلا تجد ما تبرره بواسطته غير اتهام أجهزتها بالعجز عن تزويدها بمعلومات دقيقة حوله، أو إلقاء المسؤولية عنه على عاتق بعض الساسة المساعدين أو الثانويين، الذين تحملهم وزر أخطائها وتزيحهم عن أماكنهم .

والغريب أن كل حدث خارجي مهم يتحول بسرعة إلى موضوع صراعات داخلية في الدولة الأكثر تنطحاً للإمساك بالشؤون الدولية، والأكثر رغبة في إدارة أمور غيرها والتدخل في قراراته وخياراته، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما أن تقع واقعة ما حتى يظهر موقف لرئيسها وآخر لوزارة خارجيتها وثالث لوزارة دفاعها ورابع لمجلس نوابها، فإن أنت تابعت ما يفعله هؤلاء ويقولونه أصابك الدوار، ليس بسبب تناقضاته وتخبطه فقط، بل كذلك لأن جزءاً مهماً من مواقف هذه الأطراف ينبع من رؤى داخلية الخلفيات والمرامي، كثيراً ما تفسر الحقائق في ضوئها أو تسخر لخدمتها، فيختلط الداخلي بالخارجي، المحلي بالدولي، الجزئي بالعام، الحزبي بالاستراتيجي، ولا يعود أحد يفهم حقيقة ما يحدث، وأين هو موقف أمريكا الأخير والحقيقي: وهل يعبر عنه الرئيس أم وزراؤه أم الكونغرس . وهل هناك تناقضات أكبر في سياسة دولة من قيام الكونغرس بسن مشروع قانون يلزم مبارك بترك الرئاسة، في الوقت الذي طالب الرئيس أوباما فيه بإشراف مبارك نفسه على مرحلة الانتقال إلى سلطة بديلة، وتدعو وزارة الخارجية إلى الديمقراطية من دون أي تحديد، وتشيد وزارة الدفاع بتعاون الرئيس المخلص مع واشنطن خلال ثلاثين عاماً . أي واحد من هذه المواقف هو موقف أمريكا الحقيقي؟ أعتقد أن للتناقضات وظيفة هي ترك أبواب الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، وفي الوقت نفسه عدم تحديد موقف واضح وأخير، والتعامل تالياً مع الأحداث بغموض مقصود يمليه غالباً الجهل بالواقع، أو الخوف من ممكناته غير الملائمة أو الخطرة، خاصة إن كانت تطوراته غير متوقعة أو تضمر احتمالات لا تنسجم ورؤية واشنطن ومصالحها، مثلما هي التطورات العربية الأخيرة .

لا داعي لإضاعة الكثير من الكلام على سياسة أوروبا، أو بالأصح سياساتها المتناقضة/المتعارضة، التي تتسم من جهة بعدم فهم وقائعنا، ومن جهة أخرى بالعجز عن فعل أي شيء مفيد حيالها، ولا تعرف ما تريد، فهي تارة مع الحكومات وطوراً مع قيم ومعايير مناهضة لها، وهي تراهن اليوم على الشعوب بينما تمد يد العون إلى حكامها، المناوئين لها، وهي تعلق آمالها اليوم على الاقتصاد باعتباره رافعة السياسة، وغداً على السياسة باعتبارها بديل الاقتصاد، في حين تتسم سياساتها وآراؤها عموماً بنزعة محافظة يمليها الخوف من أي تغيير، خاصة إن حملته قوى شعبية، علماً بأن أوروبا لا تتوقف عن الحديث عن رغبتها في خدمة الشعوب، وعن التبجح بأنها القارة التي أنجبت نموذجاً مكرساً للتطور المجتمعي والفردي الحر . هل يغفر لأوروبا ما في مواقفها من تهافت وكذب وبلبلة أن دولها ليست موحدة الرأي والمصالح، رغم الاتحاد الأوروبي واليورو الموحد والعلم ذي النجوم الزرقاء؟

والآن: إذا كانت أمريكا الرسمية تعترف بأن أجهزتها لا تفهم غالباً الواقع خارج بلدانها، ولا تتوقع بصورة شبه دائمة ما يقع فيها من تطورات، ولا تقدم معلومات صحيحة عن المجتمعات والأفراد، والأحداث والاحتمالات، وإذا كانت سياساتها تتناقض من دون أية مبالغة من ساعة لأخرى، وتفتقر إلى جهاز مفهومي وسياسي يتيح لها التعامل بمرونة من المستجدات والمفاجآت، يكون من الحتمي طرح السؤال التالي: بأي حق تتنطع أمريكا لقيادة العالم، وتعطي نفسها الحق في مطالبة الآخرين بالسير وراءها، وبالتسليم بدورها في قيادتها، وبعدم الاعتراض على خياراتها وخطواتها العملية، إذا كانت نتائج سياساتها مأساوية دوماً، على الآخرين؟

طرح هذا السؤال نفسه خلال الفترة التالية لعام 1990/،1991 الذي طرح جورج بوش الأب أثناءه فكرة قيادة أمريكا للعالم باعتبارها قطبه الوحيد . وبقي مطروحاً لسببين، ذكرت أولهما في ما سبق، أما ثانيهما فهو استحالة أن تمسك القبضة الامريكية الصغيرة بالعالم الكبير ومشكلاته، وأن تفهم دولة واحدة وتدير بطريقة عادلة أو ملائمة أزمات ومسائل على درجة عالية من التعقيد والتفجر . والآن، تتحول سياسات أمريكا بصورة يسلّم بها الجميع إلى سلسلة فضائح مكشوفة، تجد انعكاسها حتى في مواقف الإعلام الأمريكي، الذي يكاد يطالب حكومته والكونغرس بالإقلاع عن اتخاذ مواقف من القضايا الدولية، تجنباً للفضائح التي تقع يومياً تحت سمع وبصر العالم كله .

ليس هناك ما يمكن أن تفعله أمريكا خيراً من الامتناع فعلاً عن السعي إلى فرض رؤاها على غيرها، والتدخل في شؤونه بطريقتها البائسة، التي تزيد الأمور تعقيداً وتأزماً . وليس هناك غير موقف واحد يطالبها الجميع باتخاذه، هو ألا يكون لها أي موقف من وقائعنا وأحداثنا، لأنها لا تهتم بشيء غير مصالحها الخاصة، التي تتعارض تعارضاً كاملاً أغلب الأحيان مع مصالحنا، ولا غرض لها غير عرقلة أمورنا وتعقيدها، بجعلها غير قابلة للحل من دون تدخلها فيها ووضع يدها عليها، بصورة تزداد حصرية وأنانية وخطورة .

أيها السادة في واشنطن خاصة والغرب عامة: دعونا وشأننا . ابقوا بعيدين عنا، واتركونا نتدبر أمورنا بطرقنا، التي لا تفهمونها ولا تقرّونها في آن معاً . دعونا بحق الله، إن كنتم تريدون حقاً صداقتنا، كما تزعمون، ولا تسعوا إلى جرّنا نحو متاهات لطالما أجبرتمونا على التخبط فيها، في فلسطين وغيرها .

About this publication