منذ أسبوعين تقريباً، أرسل أحد الأصدقاء تعريفاً للمكارثية ووضع نقطة في نهاية التعريف الذي استغرق بعض السطور، وكأنه يستقرئ اتساع رقعة المكارثية هنا خصوصاً هذه الأيام.
فخلال عشر سنوات من الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، هي تلك الواقعة ما بين 1947 و1957، كان فيها السيناتور الجمهوري جوزف مكارثي، نجماً بلا منازع، أسس خطاً لم تعرفه السياسة الأميركية من قبل ربما، وأسمي باسمه “المكارثية”، وذلك تحت ذريعة مكافحة الشيوعية لئلا تتغلغل في المجتمع الأميركي. وتحت هذا الباب، صارت الشائعات والدسائس وكتابة التقارير والأخذ بالظنة، تحت تهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفييتي، أو حتى التعاطف مع أفكاره، من التهم التي يمكن أن تودي بصحابها إلى السجن، وإن كان محظوظاً، فإنه سيكون معزولاً اجتماعياً ومهنياً وسياسياً، حتى يكون الانتحار الطريق الأسلم بالنسبة له للخروج من هذه “الزنقة” التي وُضع فيها، عندما عبّر عن رأي لم يكن مرضياً للجمهوريين الذين كانوا آنذاك أجداداً للمحافظين الجدد اليوم، وقد عرفناهم منذ مطلع الثمانينات وحتى الأمس القريب من جورج بوش الابن.
لم ينجح مكارثي في بث أفكاره في مجتمع منفتح ومتسامح إلى حد بعيد، ومتعدد الأعراق والأديان والألسنة والصبغات والثقافات؛ إلا من خلال التخويف والتهويل، وصنع أعداء حقيقيين أحياناً، ووهميين أحايين أخرى، فانطلق سُعار المكارثيين في تتبع ما تنطوي عليه سرائر البشر، والتخلص من أي من يُشك في حمله أفكاراً غير متسقة 100 % مع أفكارهم إذا كانوا في الأجهزة الحكومية خشية التجسس لصالح العدو، وكان الولاء والبراء– بالطريقة الأميركية طبعاً – واحداً مما قامت عليه المكارثية، وصار الشره للمزيد من الضحايا يتقدم، ولم يعد المكارثيون يكتفون بأناس اعتياديين، فلم يتوقفوا عند هذا الحد، بل ذهب بعضهم لاتهام مواطنين حازوا صفة العالمية، كوزير الدفاع الأميركي جورج مارشال الذي يٌنسب إليه “مشروع مارشال” لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وحائز على جائزة نوبل للسلام، بأنه مساند للشيوعية. وكان مكارثي قد ادّعى في العام 1950 أن “205 أشخاص من موظفي وزارة الخارجية الأميريكية هم من المتعاطفين مع الشيوعية وأن 57 آخرين أعضاء في الحزب الشيوعي” [1].
“القائمة السوداء”، هي واحدة من نتاجات المكارثية، إذ قيّد فيها كل من يشك – لمجرد الشك وعدم الراحة – في انتمائهم أو تعاطفهم أو ميلهم للأفكار الشيوعية، ولم يكتف بهذا في الولايات المتحدة وحدها، ولكن اليد الأميركية التي كانت – ولا تزال طبعاً – طويلة حتى في أوروبا، وخصوصاً أوروبا التي تدين لها في تلك الحقبة بالفضل الكبير لحسمها الحرب العالمية الثانية، فأرسل أزلامه إلى هناك ليضعوا “القائمة السوداء الأوروبية”، لمن تنطبق عليه شروطه تلك، فاتسعت دائرة نفوذه، الذي نتج عنه رئيسان تاليان هما ريتشارد نيكسون الذي تعقّب شيوعيين في الخارجية الأميركية حتى أودى بهما إلى السجن، قبل أن يصبح رئيساً ويخرج مكللاً بالخزي والعار بفضيحة هي الأشهر سياسياً على مستوى العالم (ووترغيت)، وكذلك “رونالد ريغان، الذي كان رئيسا لنقابة الممثلين والممثلات. لكنه تجسس على زملائه لصالح مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي). وكان رقمه “العميل عشرة”. واعتذر، بعد أربعين سنة، في كتاب مذكراته. وأشار الى عذر يبدو غير غريب في اميركا اليوم، وهو انه خلط بين الخطر الحقيقي (الشيوعية)، وبين اليساريين والليبراليين والنقابيين” [2] واعترف أن أبرياء أصيبوا بالأذى في تلك الفترة!
وربما لم يكن ريغان صنيع المكارثية، ولكنه صنيع ما هو أقل شهرة، والمعروف بـ “التوماسية”، نسبة إلى بارنيل توماس، الذي سبق مكارثي بقليل فقط، وأصبح ينقب عن الشيوعيين في المجال الفني، وأقنع وولت ديزني (مؤسس شركة ديزني للملاهي)، ولويس ماير (مؤسس شركة متروغولدين ماير للسينما)، وجاك وارنر (مؤسس شركة وارنر للسينما)، بأن يشهدوا ضد زملاء لهم، وسُجن عشرة ممثلين، فقط لأنهم رفضوا الإجابة على أسئلة في التحقيق يتناقض جوهرها والدستور الأميركي [3].
بعد ثلاثة عقود، ترنّحت الشيوعية وتهاوت، وانحلّ الاتحاد السوفييتي وتفتت، في الوقت الذي صعد فيه نجم المحافظين الجدد، وخصوصاً في عهد الرئيس الأميركي السابق. وعقيدتهم تشي أنه لا بد من صنع عدو، والذهاب لحربه، فكان أن ضخّموا “الإرهاب”، ودوّلوه، وشغلوا العالم به، ووزعوا فيه التهم، وغزوا العالم بزعمه، ومنعوا، ومنحوا على هذا الأساس، وساد الشك في منافذ العالم الغربي بكل من اكتسى بسحنة أقرب ما تكون إلى العربية، والقصة معروفة التفاصيل.
اليوم نجد بين ظهرانينا مكارثية بحرينية من نوع شبيه إلى حد ما. فهناك قوائم توزع، تهم توزع، خوف وشك كبيران من أن يقول البعض رأيهم فيما جرى بحرية، إقصاء اجتماعي لكل من يقول أن له وجهة نظر مستقلة، فالمسطرة موجودة لمعرفة مدى انحرافك وانجرافك. هناك من لا يتوروعون عن إيراد أسماء في مواقع عمل، ونسب جملة من التهم إليها من دون لحظة تأمل في الحديث النبوي الشريف “كفى بالمرء كذبآ أن يحدث بما يسمع”،ولكي يبرئ البعض ذمته، يتوج القائمة بكلمة “كما وصلني”، ويختمها بثلاثية “انشر انشر انشر”، ونراها منتشرة، بل ومنشورة في اليوم التالي، بلا تثبت ولا يقين. ففي زمن المكارثية، من لا تناله مخالبها، لا أقل من أن تنال من سمعته.
هوامش:
[1] ويكيبيديا – المكارثية
[2] صحيفة الشرق الأوسط – الجمعـة 23 ديسمبر 2005، العدد 9887
[3] المصدر نفسه
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.