America's Double Standard in the Ethiopian Model

<--

تقف اثيوبيا اليوم, التي وصفها السفير الأميركي في أديس أبابا دونالد إي. بوث أوائل الشهر الجاري بـ “جزيرة استقرار” في منطقة مضطربة, خير مثال على ازدواجية المعايير الديمقراطية الغربية بعامة والامريكية بخاصة.

ففي حقبة تاريخية شهدت الاحتلال العسكري الأميركي للعراق وأفغانستان, وتشهد حاليا تحريك الولايات المتحدة لحلف الناتو الذي تقوده ويقود بدوره التدخل العسكري الحالي في ليبيا, من أجل “تغيير الأنظمة” في هذه البلدان, بحجة كونها أنظمة حكم شمولية يحتكر السلطة فيها فرد أو حزب واحد يستخدم الاستبداد والخوف والأجهزة القمعية والأمنية لمصادرة الحريات العامة والمعارضة وتبادل السلطة من أجل الاحتفاظ بالحكم, وفي وقت يموج فيه المحيط العربي والإفريقي بالحشود الشعبية الهادرة المطالبة بحقوقها وحرياتها, تلوذ واشنطن بالصمت حيال النموذج الاثيوبي لمثل هذه الأنظمة, بل إنها تحرص على إطالة عمره بإغداق المعونات المالية والعسكرية عليه, وتتحالف معه استراتيجيا في حربها العالمية على “الإرهاب”, وتحوله إلى وكيل إقليمي لهذه الحرب, فتدعم مغامراته العسكرية خارج حدوده, وتهديداته لجواره الإقليمي, بحجة الحفاظ على استقرار الإقليم الذي يفتقد الاستقرار بسبب هذا التحالف الأميركي -الاثيوبي على وجه التحديد.

وهذا التحالف ليس ثنائيا, فهو ثلاثي, ودولة الاحتلال الإسرائيلي هي ضلعه الثالث, وعلى الأرجح في حسابات واشنطن أن أهمية اثيوبيا لحليفها الاستراتيجي الإسرائيلي أهم من كونها “الشريك الاستراتيجي” للولايات المتحدة في الحرب على “الإرهاب” مما يسوغ ازدواجية المعايير الديمقراطية الامريكية تجاه اثيوبيا. ويجري امريكا واثيوبيا التعتيم على دور الشريك الإسرائيلي في هذا التحالف الثلاثي بسبب الانعكاسات السلبية لأي إبراز للدور الإسرائيلي على العلاقات الامريكية الثنائية خاصة مع دول الإقليم العربية على الأخص, لكن المصالح المشتركة بين الحلفاء الثلاث واضحة في إبقاء خطوطهم مفتوحة على مداخل البحر الأحمر ومخارجه كطريق حيوي لإمدادات النفط وبوابة إسرائيلية بحرية إلى إفريقيا وآسيا ومنفذ بحري وحيد لاثيوبيا المحاصرة باليابسة. إن مبادرة دولة الاحتلال الإسرائيلي إلى أن تكون أول دولة تعترف بجمهورية أرض الصومال عام 1960 ثم إعلان استعدادها مؤخرا لتجديد هذا الاعتراف, وتبني اثيوبيا لمنحها مقعد مراقب في الاتحاد الإفريقي, ورفض الرئيسين المصري السابق حسني مبارك والسوداني عمر البشير حضور قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة في الخرطوم إلا بعد سحب دعوة لجمهورية أرض الصومال لحضورها, ليست إلا مثالا واحدا على تقاطع المصالح الاثيوبية الإسرائيلية وتضارب المصالح العربية الاثيوبية. وكان فوز شركة “بلو بيرد” الاسرائيلية هذا الشهر بعقد لبيع طائرات حربية دون طيار إلى اثيوبيا مجرد المثال الأحدث على علاقات اديس ابابا الوثيقة مع تل أبيب في عهد رئيس الوزراء الاثيوبي منذ عشرين عاما ميليس زيناوي, الذي سلح حراسه الشخصيين برشاش “تافور” إسرائيلي الصنع واختار العلاج في مستشفى هداسا الإسرائيلي بالقدس المحتلة في حزيران عام ,2006 بعد أول زيارة رسمية لدولة الاحتلال على الاطلاق يقوم بها رئيس وزراء اثيوبي في أواسط سنة 2004 اجتمع خلالها مع نظيره الغائب عن الوعي حاليا آرييل شارون, ليرحب في سنة 2009 في العاصمة الاثيوبية بوزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان الذي تتجنب دول كثيرة في العالم استقباله رسميا لتطرفه وعنصريته ناهيك عن تحقيقات النائب العام الاسرائيلي معه بتهم الاحتيال وغسيل الأموال وخيانة الأمانة والتلاعب بالشهود.

والجدير بالذكر أن دولة الاحتلال الإسرائيلي أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع اثيوبيا عام 1992 ، أي في السنة التالية لتولي زيناوي الحكم, بعد أن كانت اديس ابابا قطعتها أثناء الحرب المصرية والسورية -الإسرائيلية في أكتوبر / تشرين الأول 1973 .

قال السفير الأمريكي بوث إن اساس العلاقات الامريكية – الاثيوبية يقوم على ثلاثة ركائز هي التنمية الاقتصادية, والاستقرار الإقليمي, والديمقراطية وحقوق الانسان.

ومن الجدير بالذكر هنا أن زيناوي “الماركسي الستاليني” وحزبه قد حظيا بالدعم الأميركي أثناء “كفاحهم” لاسقاط نظام منغستو هيلي ميريام الماركسي, وأن التمثيل الدبلوماي الأميركي في أديس أبابا رفع إلى مستوى سفارة فقط عام 1992 بعد سنة من تولي زيناوي الحكم. وبعد مرور عشرين عاما على زيناوي في السلطة, واستمرار الملايين جوعى وفي فقر مدقع, وزيادة معدل البطالة على أربعين بالمئة, وبينما أنفقت زوجة زيناوي, أزيب مسفين, (1.2) مليون يورو على الملابس على ذمة صحيفة إيه بي سي انترناتسيونال التي تصدر في مدريد (27/1/2011), وتصنيف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لاثيوبيا في المرتبة (157) بين (169) بلدا, وتصنيفها في المرتبة (107) بين (110) بلدان (http://www.prosperity.com/ra-ki-gs.aspx)في الازدهار الاقتصادي, فإن الركيزة الأولى التي ذكرها السفير بوث كأحد أسس العلاقات مع الولايات المتحدة تنهار, مما يثير أسئلة جادة حول مصير حوالي مليار دولار أميركي قيمة معونات سنوية تقدمها واشنطن لأديس أبابا, إضافة إلى المعونات العسكرية, مما يجعل منها أكبر المانحين لاثيوبيا التي يمدها الغرب بأكثر من ثلاث مليارات دولار معونات سنوية, يمول نظام زيناوي بها قمعه في الداخل ومغامراته العسكرية في الخارج. ومما لا شك فيه ان جزءا من المعونة الامريكية يذهب للصرف على السجون السرية التي أقامتها السي آي إيه في اثيوبيا. وتمثل هذه المعونات اكثر من (90%) من ميزانية الحكومة. وفي تقريرها السنوي الذي اصدرته في الشهر العاشر من العام المنصرم بعنوان “تنمية بلا حرية” قالت منظمة مراقبة حقوق الانسان (هيومان رايتس ووتش) إن حكومة زيناوي تستخدم المعونات الأجنبية “كأسلحة سياسية للتحكم في السكان, ومعاقبة المعارضة, .. ويحرم المسؤولون المحليون الناس من البذور والأسمدة والأراضي الزراعية والقروض والمعونات الغذائية وغيرها من موارد التنمية”, كم أن هذه المعونات “تساهم في إشاعة مناخ أوسع من الخوف, وتبعث برسالة قوية بأن أساسيات البقاء على قيد الحياة تعتمد على الولاء السياسي للدولة والحزب الحاكم”. وقالت مديرة المنظمة في القارة الإفريقية, رونا بليجال, إن المانحين الأجانب مع ذلك ما زالوا “يكافئون هذا السلوك بأموال متزايدة من معونات التنمية”. وطبقا للبنك الدولي, يتحكم حزب زيناوي الحاكم بحوالي نصف الاقتصاد الوطني من خلال مجموعة تجارية تابعة للحزب تسمى “صندوق وقف إعادة إعمار تيجراي”.

أما الركيزة الثانية لهذه العلاقات, أي “الاستقرار الإقليمي”, فينسفها واقع أن اثيوبيا كانت بقيادة زيناوي وما زالت العامل الأهم في اضطراب الإقليم, بسبب الحروب على جيرانها والتدخل السافر في شؤونهم الداخلية. وبفضل “الشراكة الاستراتيجية” مع الولايات المتحدة, يتجرأ زيناوي الآن على التهديد ب¯”تغيير النظام” في اريتريا ويلوح بمواجهة مع مصر, فقد نقلت رويترز عنه في الحادي والعشرين من نيسان الجاري اتهامه لاريتريا بانها “تدرب وتنشر قوى .. مخربة لإرهاب بلدنا. لكن مصر هي القوة المباشرة التي تقف خلف هذه العناصر المخربة”, ليضيف: “الآن وجدنا أنه لم يعد في وسعنا الاكتفاء بالدفاع السلبي, .. لذلك علينا أن نسهل الطرق أمام الشعب الاريتري للتخلص من نظامه الدكتاتوري” .. اي “تغيير النظام” في اريتريا كما أوضح وزير خارجيته هيلي مريام ديسالجن. وما زال زيناوي يصر على التذكير بخسارة “حق اثيوبيا في السيادة” على أراضي عفر الساحلية من ميناء عصب مرورا شمالا بمصوع فالجزر الاريترية في البحر الأحمر, ليرفض ترسيم الأمم المتحدة للحدود مع أريتريا ويخوض معها حربا عام 2000 تسببت في قتل ما يزيد على مئة ألف من الجانبين حتى الآن. وكان زيناوي قد غزا الصومال بتمويل ودعم عسكري أميركي, بعد أن كاد اتحاد المحاكم الإسلامية يوحد البلاد ويعيد إليها الاستقرار الذي افتقدته طويلا منذ الغزو الأميركي في عهد الرئيس الأسبق محمد زياد بري, بحجة منع قيام دولة صومالية يسيطر عليها الإسلاميون وتكون حاضنة للإرهاب, والوضع الراهن في الصومال خير دليل على النتائج العكسية لهذه المغامرة الاثيوبية – الامريكية. وفي جيبوتي حيث توجد قاعدة عسكرية لداعميه الأميركيين يدعم زيناوي حكم اسرة الرئيس إسماعيل عمر غوليه التي تحكمها وتستاثر بالثروة والسلطة والفساد فيها منذ ما يزيد على ثلاثين عاما والتي قمعت مؤخرا احتجاجات شعبية واسعة متأثرة بالثورتين المصرية والتونسية, بذريعة أن جيبوتي الآن هي المنفذ البحري الرئيسي لاثيوبيا, مع أن أي نظام حكم جديد لن يستغني طبعا عن مئات الملايين من الدولارات التي تدفعها اثيوبيا لجيبوتي كرسوم سنوية لاستخدام مينائها. غير أن التهديد الأخطر على الاستقرار الإقليمي الذي يمثله نظام زيناوي وهو ساند ظهره إلى حليفيه الأميركي والإسرائيلي فيكمن في استفزاز مصر حد جرها إلى حرب بالتصرف من جانب واحد في مياه النيل دون تشاور مع دولتي المصب في مصر والسودان حسب الاتفاقيات الموقعة, مما دفع رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية المشير محمد حسين طنطاوي, في مقابلة مع التلفزيون الحكومي الرسمي في الحادي والعشرين من آذار الماضي إلى التهديد ب¯ “تغيير نظام” زيناوي إذا واصل استفزازاته.

والركيزة الثالثة التي أشار إليها السفير بوث, أي الديمقراطية وحقوق الانسان, تنقضها تقارير أميركية ودولية. فطبقا لوكالة المخابرات المركزية الامريكية “السي آي إيه”, فإن اثيوبيا مدرجة ضمن أكثر المجتمعات انعداما للمساواة بين حوالي ستين عرقية فيها, حيث تسيطر عرقية التيجراي التي تمثل (7%) من السكان الذين يزيد عددهم على ثمانين مليون نسمة على حكم ميليس زيناوي, نصفهم في الأقل مسلمون يكاد يكون تمثيلهم في مؤسسة الحكم صفرا. وكان تقرير هيومان رايتسووتش في حزيران / يونيو 2008 بعنوان “عقوبة جماعية: جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في منطقة أوغادين من الإقليم الصومالي لاثيوبيا”. أما التقرير عن ممارسات حقوق الانسان في اثيوبيا الصادر في أوائل الشهر الحالي ضمن التقرير السنوي لعام 2010 الذي تصدره وزارة الخارجية الامريكية فقد تحدث عن انتهاكات للنظام وأجهزة أمنه وشرطته “الخاصة” ومليشياته المحلية ضد المعتقلين وأنصار المعارضة شملت “القتل غير القانوني” والاعتقال التعسفي دون توجيه اتهام والقيود على حرية التعبير واستخدام العنف والتهديد أثناء الانتخابات والفساد في الشرطة والإدارة والقضاء والإفراط في استخدام القوة ومضايقة المنظمات غير الحكومية والتدخل في نشاطات النقابات والرقابة على الصحف والإعلام والانترنت. وكان من الطبيعي في هذه الأجواء أن يفوز الحزب الحاكم في انتخابات أيار من العام الماضي بـ (545) مقعدا من (547) مقعدا في البرلمان, وبـ (1903) مقاعد من (1904) مقاعد في البرلمانات الإقليمية, وفي الانتخابات المحلية عام 2008 فاز بكل المقاعد البالغ عددها (3.4) مليون مقعد وخسر أربعة مقاعد منها فقط, كما جاء في التقرير.

وقد دافع السفير دونالد بوث عن هذه النتائج في 12 الشهر الجاري قائلا إن “الشعب الاثيوبي قبل” بفوز الحزب الحاكم بنسبة (99.6%), وكانت بلاده قد واصلت معوناتها للنظام بعد أن انقلب على فوز المعارضة في انتخابات 2005 وقتل المئات واحتجز الآلاف واعتقل المئات من الشخصيات المعارضة ثم أصدر عدة قوانين منها واحد لمكافحة الارهاب وآخر للصحافة في ظل حالة طوارئ سارية المفعول حتى الآن كي يضمن ألا يتكرر فوز المعارضة في انتخابات 2010.

وإذا كانت ازدواجية المعايير الديمقراطية الامريكية صارخة في نموذجها الاثيوبي لكن يمكن فهمها باعتبارها عرفا راسخا في السياسة الخارجية الامريكية, فإن ازدواجية بعض المواقف العربية المماثلة تمثل استهتارا بالتهديد الاثيوبي للبوابة الجنوبية للوطن العربي وهي بحاجة إلى إضاءة.

About this publication