نيويورك.. نيويورك
وصل فرح أنطون، مؤسس مجلة «الجامعة»، من مصر إلى نيويورك بداية القرن الماضي، فوجد مدينة هي الأغنى في العالم، وعاملا يتقاضى ثلاثة أضعاف أجر العامل الأوروبي وثلاثين ضعفا من أجر العامل الشرقي. ووجد أن أميركا تسبق أوروبا في التطور بربع قرن على الأقل. لكنه رأى أيضا مشردين ينامون في الشوارع، وجائعين يصطفون من أجل كسرة خبز واحدة، ومحسنين يتبرعون بـ15 سنتا في الليلة لقاء سرير لمشرد، وأناسا بلا مشاعر يمرون بالمشردين ولا يتوقفون.
وعندما سافرت إلى نيويورك عام 1973، لم أكن قد قرأت «الجامعة» أو سمعت عنها، لكنني توقفت أمام المشاهد نفسها، وأذهلني الفارق بين البشر. وكنت مثل شارة السيارة، أحزن لحظة وأنبهر أخرى. رصيف ترى عليه المشردين ورصيف ترى عليه محلات فيفث أفنيو. عدت مرات عدة إلى المدينة ولم أعد ألاحظ شيئا. ثم غبت عقدا وعدت إليها العام الماضي، بعدما كنت قد قرأت ما كتبه صاحب «الجامعة» عام 1908. ورأيت نيويورك مدينة تتقدم أوروبا بربع قرن. مبانيها لم تعد تنطح السحاب بل صارت فوقه. وفي المساء كنت أمشي في فيفث أفنيو فأرى العشرات من المشردين ينامون في علب الكرتون على درج المباني. ما تغير شيء منذ قرن سوى الطراز العصري. وما زالت نيويورك إما ترمي الناس بالفقر وإما تقدم لهم صدور الذهب ليأكلوا عليها. وكانت تقض حياتي امرأة سوداء تجلس عند إحدى الزوايا في المساء، وهي ترتجف، كلها ترتجف، مثل عصافير الصقيع. وكنت أجمع لها «الفكة» طوال النهار وأحملها إليها في المساء. ولم يكن في مقدورها أن تلتفت إليَّ بسبب الارتجاف. ويوم كنت أذهب ولا أجدها، تتحكم بي رعشة عقدة الذنب. ويوم لم أتمكن من الذهاب إلى زاويتها أحاسب نفسي على القصور.
ليست هذه نيويورك وحدها، على مدى العقود. هذه هي المدن الكبرى في كل مكان. مجمع للغرباء القادمين من الجهات كلها والأرياف كلها. نصحت «الجامعة» المغتربين عام 1908 بالانصراف إلى الزراعة بدل العمل في المصانع والفبارك. وقدمت لهم الأمثلة على تربية البقر والدجاج. تكلفة البقرة الحلوب في العام ريالان، وربحها الصافي ريال. أو «لحلوح» بحاله، كما يقول المصريون. لكن فاتها تفصيل بسيط، هو أن المغتربين هاربون من شقاء المزارع والوحدة مع الأبقار والحرث في الأراضي الصخرية.
أشعر بحنين إلى نيويورك: حديقتها العظيمة ومتاحفها ومكتباتها، وأشعر بعقدة ذنب حيال المرتجفة السمراء، بثوبها الأسود البالي. وإذا كانت «تمثل» ذلك الدور، كما يقال في الشحاذين، فأتمنى أن تصبح سيدة المسرح في برودواي.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.