أزمة أميركا وواقع لبنان * غازي العريضي
في سياق الخلاف بين الحزبين “الجمهوري” و”الديموقراطي” في أميركا حول الاتفاق لرفع سقف ديونها، وقبل أيام من “نفاد الوقت” للتوصل إلى الاتفاق، قال أوباما : “لقد أصبح واضحاً الآن أن أي حل لتجنب العجز عن سداد الديون يجب أن يأتي من الحزبين، ويجب أن يحظى بتأييد الحزبين، وليس تأييد فصيل واحد فقط، وهما يمثلان الشعب الأميركي”. وأضاف: “إن سقف الدين لا يحدد مبلغ المال الذي نستطيع إنفاقه، بل إنه يخولنا دفع مستحقاتنا المتراكمة، ويعطي الولايات المتحدة القدرة على الوفاء بوعودها”. ثم تحدث عن مسألة الانتماء الحزبي وأولوية المصلحة الوطنية التي تتقدم على مصلحة الحزب فقال: “لقد انتهى زمن وضع مصلحة الحزب أولاً”! لقد آن الأوان للتوصل إلى تسوية نيابة عن الشعب الأميركي”لست خبيراً اقتصادياً بالتأكيد. ولا ألّم بالحد الأدنى من علم الاقتصاد. لكن مقاربة هذا الكلام ومضمونه وموضوعه الأساس من زاوية سياسية، هي مسألة ضرورية ومهمة.
إنها أميركا، الدولة “الأكبر” “والأقوى” في العالم. أميركا الدولة التي اعتقد قادتها واهمين في لحظة معينة من الزمن وبالتحديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أنهم أصبحوا قادة العالم ومحركي الأحداث فيه وصانعي القرارات وراسمي السياسات والتوجهات. أميركا التي أرادت تعميم أساليبها وسياساتها ووصفاتها على كل دول العالم أن تصل إلى ما هي عليه، بعد سلسلة من النكسات والخيبات والعثرات في الخارج التي كلفتها سياسياً ومعنوياً ومالياً، أن تصل إلى أزمة عميقة داخلياً، تضعها أمام حافة الانهيار المالي، فهذا أمر ليس عادياً ولن تكون تداعياته عادية على الاقتصاد العالمي، وبالتالي على السياسات والمعادلات والتوازنات الدولية. وربما كنا أمام أزمات سياسية وأمنية خطيرة بعد هذا الاستحقاق حتى ولو تم إيجاد ترتيب له.
ما يعنيني هنا، بالإضافة إلى ما ذكرت هو الاستفادة من دروس التاريخ وتجاربه واستخلاص العبر منها لنتعلم دائماً كيف نتجنب الوصول إلى مأزق أو الاقتراب من حدود الانهيار، وكيف نتعامل مع حالات من هذا النوع دون مكابرة وغرور وشماتة.
لقد أثبتت سنوات العقد الأول من هذا القرن، أن وصفات المؤسسات الدولية للدول النامية وذات الاقتصاد الضعيف، لم تكن ناجعة، كانت ارتجالية متسرعة انطلقت من تلك الأميركا وتوجهاتها ومؤسساتها وشركاتها المالية، والشركات المتعددة الجنسيات ومصالحها… وها هي أميركا نفسها تواجه المأزق ذاته.
وأتناول الموضوع من زاوية لبنانية أيضاً نظراً لأهمية كلام أوباما، الذي يعبر عن قناعة هي خلاصة تجربة غنية في الحكم.
لبنان بلد مثقل بالديون، لكنه كان دائماً وفياً لالتزاماته السياسية والمالية، لم يتأخر يوماً عن سداد دين. واجه متاعب ومصاعب، لكنه وجد الوسائل والأساليب التي مكنته من الوفاء بالالتزامات. ورغم دقة وصعوبة وضعه المالي، ورغم المواقف السياسية المتصلبة والسلبية لعدد من الدول تجاه لبنان، كان الجميع يقرّ بأن هذا البلد الصغير لم يتنكر يوماً لاستحقاق، ولم يتأخر عن إيفاء دين ووفاء لالتزام. حاول كثيرون الضغط علينا، وهدد كثيرون بمسّ اقتصادنا وإضعافنا. اللهم لا شماتة.
ها هـــم غارقون بالديون، مهددون بالسقوط، يعيشون أزمة مالية خطيرة، ولا مخارج منها، لكن أوباما وضع يده على حقيقة أن المخرج لا يكون بالتفرّد.
هذه هي النقطة الثانية المهمة، كل الدول تواجه أزمات، تقع تحت ديون، تتعرض اقتصاداتها لهزات. ولكن يصل المسؤولون والخبراء إلى حلول. المشهد اليوم في أميركا مثل المشهد اللبناني. انقسام حاد بين الحزبين، وصل إلى حد تحذير أوباما، وعدد كبير من الباحثين والخبراء الاقتصاديين من خطورة الوضع وضرورة التوصل إلى اتفاق قبل نفاد الوقت، وإلا فإن أميركا ستواجه خطر الإفلاس السياسي والمعنوي والمالي، لأنها ستظهر عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها، والقدرة على دفع المستحقات، وستكون هزة مالية وسياسية ستؤثر على العملة والاقتصاد، وستشل عمل الحكومة. هنا خرج الرئيس ليقول:”قرار الحل لا يأتي من حزب حاكم. من حزب واحد. القرار قرار وطني، قرار إنقاذي. يجب أن يتم التوصل إليه بين الحزبين. الحزب الحاكم والحزب المعارض” . المسألة ليست مسألة أكثرية تحكم. ولو كانت منتخبة من الناس. المسألة هي مسألة قرار وطني كبير، إما أن ينقذ الدولة والناس، وإما أن يغرقهما. وهذا لا يعني فريقاً دون آخر. ولا يمكن التعاطي معه على قاعدة المكايدة والنكاية وتصفية الحسابات السياسية أو الانتخابية أوالحزبية أو الشخصية. إنها الحالة التي يعيشها لبنان. ما أريد قوله هنا للبنانيين، كل اللبنانيين، حالتكم ليست فريدة، هذه هي حالة أميركا الدولة الأعظم وصل فيها الناس إلى هذه القناعة. فما بالكم تترددون وتتأخرون. الدين في لبنان قضية وطنية، والخروج منه قضية وطنية. الثروة النفطية ثروة وطنية، استثمارها، إدارتها قرار وسياسة وعمل وطني. الاحتلال ومواجهته، المقاومة والسلاح، والمحكمة الدولية والإصلاح، ومكافحة الفساد، ومواجهة المذهبية والطائفية ومنع التفتيت، قرارات وطنية، تنبع من سياسات وطنية لا يمكن لفريق أن يرسمها وحده حتى ولو كانت لديه أكثرية شعبية أو نيابية، بصوت أو 5 أصوات بمعزل عن كيفية تركيبها، فكيف إذا كنا نعرف حساسيات وحسابات وتوازنات بلدنا؟ فهل نستمر في سياسة المكايدة والمناكفة والتحدي أم نذهب إلى التفاهم؟ وهذا ما يجري عند غيرنا الأعرق في الديموقراطية. التاريخ يتحرك، والأحداث تتغير وتتوالى، وتتنوع والرجال يتغيرون والأنظمة تتغير فلا يمكن لأحد في موقع القرار أن يبقى جامداً متحجراً معانداً بلا معنى ولا نتيجة. إنها دعوة للحوار والاتفاق قبل نفاد الوقت أيضاً في لبنان.
لمسألة الثالثة والمهمة في الإطار ذاته هي إشارة أوباما: “لقد انتهى زمن وضع مصلحة الحزب أولاً” . هذا نمط متقدم من التفكير. نعم ، بين مصلحة الحزب ومصالح الناس ومصير البلاد وأمنها واستقرارها ينبغي الانحياز إلى الخيار الثاني، بما يؤكد أيضاً أن اتحاذ القرار لا يكفي أن يستند إلى أكثرية نالها حزب ما في الانتخابات. وأن اتخاذ قرار كبير استراتيجي لا يكفي أن يستند إلى فوز الحزب بالانتخابات فقط. المسألة أبعد من ذلك. ويحضرني هنا زعيم كبير من هذا الشرق، رئيس حزب صغير قياساً على ما يمثله أوباما وحزبه، هو الشهيد كمال جنبلاط الذي خاطب حزبييه ذات يوم قائلاً: “إذا خيرتم بين حزبكم وضميركم اختاروا ضميركم”. أوباما يؤكد اليوم هذه النظرية . كمال جنبلاط كانت معرفته وثقافته وسعة إطلاعه وخبرته أكبر وأوسع من لبنان ومحيطه. وفي مواجهة الأزمات هكذا كان يتصرف. حبذا لو ينجح أوباما وغيره في هذا السلوك وما أحوجنا إليه اليوم في لبنان.
التاريخ : 15-08-2011
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.