When Will the Arabs Understand America?!

<--

في الجامعة نحاضر عادة على طلبتنا بأنه لا يمكن استيعاب وفهم السياسة الخارجية للدول دون فهم واستيعاب الموقع الجيوبوليتيكي للدولة المعنية وقدراتها وجيرانها كعوامل مؤثرة في صياغة مسار وحدود سياستها الخارجية. وهناك عامل آخر قد لا نوليه اهتماماً وهو دور وتأثير الضغوط والعوامل الداخلية، ودور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الأنظمة الديمقراطية. ففي تلك المجتمعات، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية، يتعرض النظام لضغوط المجالس التشريعية والمجتمع المدني والإعلام الخاص والمعارضة وتقارير وتوصيات ومؤتمرات مراكز الدراسات وجماعات الضغط أو “اللوبي” المتعدد الأهداف والمصالح والأنشطة، وخاصة إذا كان يدعم كياناً أو دولة مثل إسرائيل أو إيرلندا أو بولندا أو أرمينيا. ونرى كيف تضغط وتصعد تلك الجماعات في نظام يسمح بل يشجع تلك “اللوبيات” لتصول وتجول وخاصة في الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية، وفي مسعى التأثير لتوجيه دفة السياسة الخارجية لمصلحة دولة معينة، أو لإصدار موقف محدد، أو لبيع أو منع بيع صفقة أسلحة لدولة معينة أو لخصومها، إلى درجة أن اللوبي الأرمني في أميركا مثلاً ضغط من أجل أن يصدر الكونجرس قبل سنوات بياناً يدين المجازر التي يتهم الإمبراطورية العثمانية بارتكابها ضد الأرمن قبل قرن من الزمن!

ولكن الأمضى هو قوة وتأثير وهيمنة اللوبي الأميركي- الإسرائيلي، أو ما يُعرف بـ”مجلس العلاقات العامة الأميركي الإسرائيلي” أو “AIPAC” الذي “يحج” إلى مؤتمره السنوي في واشنطن ويخطب وده كبار ساسة بلاد “العم سام” وحتى الرئيس الأميركي نفسه ونائبه ووزيرا خارجيته ودفاعه وزعماء الحزب المعارض، ومختلف كبار صناع القرار في أميركا، وفي إسرائيل أيضاً بما فيهم رئيس وزرائها، للتقرب من هذا اللوبي النافذ وكسب وده. وهذا اللوبي هو الأكثر قدرة على التحكم في القرار الأميركي واختطافه فيما يتعلق بسياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط، وهي سياسة تبقى توجهاتها ثابتة على الدوام بغض النظر عن شخصية ومكانة وحزب من يسكن في البيت الأبيض. ولذلك فلا فرق في موقع وأولوية إسرائيل بين إدارة بوش الجمهوري وأوباما الديمقراطي.

وإلى اليوم لم ينجح العرب قادة وساسة ومحللين وباحثين في فك طلاسم هذه العلاقة الاستراتيجية الثابتة، ولا حتى في محاولة التعلم والاستفادة مما يوفره النظام الأميركي من هوامش حرية للدخول في المعترك السياسي الأميركي والتأثير على مجرياته ومخرجاته كما أتقنه اليهود قبل قرن من الزمن. وإلى اليوم، وعلى رغم محورية ودور أميركا في الشأن العربي، وتأثيرها على الكثير من الدول والشعوب، ووجودها الأمني والعسكري واحتلالها لدول عربية وتشابك مصالحها مع المنطقة، إلا أن عدد المتخصصين بالشأن الأميركي ومراكز الدراسات الأميركية في دولنا العربية يعد على أصابع اليدين وهذا محبط وغير مفهوم! ولذلك لا تزال أميركا بالنسبة لكثير من العرب لغزاً لا يمكن فك شفرته. أو كأنه لا يمكن فهمه في نظر العرب وغيرهم، باستثناء إسرائيل وحلفائها في النظام السياسي الأميركي.

لا يستوعب العرب ولا يقدرون طبيعة تركيبة النظام السياسي الأميركي وقوة الشأن الداخلي وتأثيره وتحكمه في السياسة الخارجية الأميركية، إلى درجة قال معها أحد أهم رؤساء الكونجرس الأميركي مقولته الشهيرة «كل السياسات والمواقف حتى في الشأن الخارجي تعكس السياسة الداخلية» “All politics is Local” وهي مقولة ذهبت شعاراً يردده العامة والساسة وصناع القرار والباحثون الأميركيون.

إن تركيبة وطبيعة النظام السياسي الأميركي تجعله لا ينهي دورة انتخابات حتى يبدأ بأخرى، وخاصة على مستوى الكونجرس، الذي يعاد انتخاب مجلس النواب فيه كل عامين وانتخاب أعضاء مجلس الشيوخ كل ستة أعوام، وبسبب تشعب وتعدد شبكة المصالح ودور القوى الداخلية ودعم بعضها وخاصة لوبي “إيباك” الموالي لإسرائيل كما أوضحنا.

ومن المفارقات أن الكونجرس الأميركي أصبح مجلساً أكثر موالاة واصطفافاً وترحيباً، وأقل عداءً، لرؤساء وزراء إسرائيل حتى من “الكنيست” الإسرائيلي نفسه. وقد رأينا تجلي ذلك هذا العام في الخطاب الذي ألقاه نتنياهو أمام جلسة مشتركة للكونجرس بمجلسيه وعواصف التصفيق التي حظي بها، ومقاطعته بالتصفيق أكثر من ثلاثين مرة وهو ما لم يحصل عليه في مجلس “الكنيست” الإسرائيلي نفسه، وكذلك لم يحصل عليه أوباما أو غيره. وعندما يسكت أوباما عن بناء المستوطنات ويتلقى الإهانة عندما حاضر عليه نتنياهو أمام عدسات الكاميرا حول صعوبة ورفض القبول بحدود 1967 لأن إسرائيل لا يمكنها الدفاع عنها، تكبر خيبة الأمل في أوباما بسبب ارتهانه لتوازنات الداخل ونفوذ اللوبي الأميركي- الإسرائيلي وحلفائه في الكونجرس والإعلام ومراكز الدراسات لتعزيز فرص فوزه بولاية ثانية. كما تؤكد استطلاعات الرأي الأخيرة تصاعد الغضب وفقدان الثقة من الناخب الأميركي، وتراجع شعبية أوباما بين العرب والمسلمين المحبطين الذين خاب أملهم بسبب تخبط وعجز أميركا على رغم وعود أوباما الكثيرة ودعمه لقيام الدولة الفلسطينية. بينما ترتفع شعبية أوباما في إسرائيل – يا للمفارقة- لتتجاوز شعبيته في أميركا نفسها بسبب اصطفافه مع تل أبيب على حساب مبادئه ورؤيته وقيمه! وهكذا أصبح يقال علناً إن إسرائيل هي من يدير ويتحكم في سياسة ومواقف واشنطن في الشرق الأوسط، وليس العكس!

ولا يبدو أن أميركا في وارد أن تُصغي حتى لحلفائها العرب الذين دأبوا على تحذيرها وتنبيهها إلى أهمية التوازن في تعاملها مع قضايا المنطقة. وآخر هؤلاء كان الأمير تركي الفيصل في مقالة رأي قرع فيها أجراس الإنذار ووجه رسائل واضحة، حيث “طالب أميركا بدعم طلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة أو المغامرة بخسارة ما تبقى لها من مصداقية ضئيلة في العالم العربي. وتعريض نفوذها للتآكل، وتعريض أمن إسرائيل للخطر، وتقوية إيران، وبالتالي فرص اندلاع حرب في المنطقة. ولذلك فإن السعودية لن يكون بمقدورها التعاون مستقبلاً مع أميركا كما كان عليه الحال. ما يعرض «العلاقة الخاصة» بين السعودية وأميركا للضرر، وسط الربيع العربي، ووسط المطالبة العربية والإسلامية بالعدالة للشعب الفلسطيني”. ويُحذر من “العواقب الوخيمة” للفيتو الأميركي ضد عضوية الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة.

ولاشك أن توجيه انتقادات وتقديم النصح وكتابة مقالات رأي من قبل المسؤولين والباحثين والأكاديميين العرب لأميركا مهم، ولكنه لن يغير شيئاً من الواقع المؤلم! متى يفهم العرب أن سياسات أميركا تصنعها وتتحكم فيها معادلة توازنات الشأن الداخلي. ولن يصبح العرب ذوي تأثير ووزن طالما بقينا خارج تلك المعادلة السياسية المعقدة! فمتى نستوعب الدرس؟!

About this publication