في خطابه الثالث عن حالة الاتحاد والذي ألقاه يوم الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الجاري، رسم الرئيس الأمريكي باراك أوباما الخطوط المحددة لأولويات إدارته الكفيلة ببناء اقتصاد قابل للاستمرار والتي تمحورت حول خطته لدعم وإسناد الطبقة الوسطى بواسطة إصلاح مدونة قوانين الضرائب الخاصة بأكثر الأمريكيين غنى، ورفع فرص التعليم، وإصلاح شامل لأنظمة وقوانين الهجرة .
بهذا الخطاب الموجه إلى الأمة الأمريكية الذي أريد له أن يدشن حملة الرئيس أوباما الانتخابية، عاد الرئيس أوباما إلى تخصصه في التألق الخطابي المفعم بالحماس والحيوية بعد أن كان هذا الألق قد خبا واعتراه الفتور وعدم اليقين اللذين تسللا ربما إلى فصيح لسانه مخرجات مفرداته خلال السنتين الماضيتين نتيجة للخذلان الذي تعرضت له خططه وبرامجه من جانب الجمهوريين في الكونغرس لا سيما في مجلس النواب الذي يتمتعون بأغلبيته، وخذلانه هو لنفسه من خلال تقهقره أمام ضغط الجناح الصاعد والأكثر تطرفاً في الحزب الجمهوري “حزب الشاي” وخضوعه لابتزازاته في عدد من القضايا الجوهرية التي تصدرت برنامجه الانتخابي للتغيير الوطني .
ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن أوباما، بهذا الخطاب، عاد إلى صدارة المشهد الصراعي السياسي في بلاده من جديد بتشخيصه الدقيق لمأزق “الحلم الأمريكي” وبطريقة عرضه البديعة لمعطيات هذا المأزق، والتحديات التي يشكلها لمستقبل الولايات المتحدة . فلقد حفز وأعاد إغراء الأمريكيين باستعادة السيطرة على مراتب الريادة العالمية في شتى الحقول، وخص منها تحديداً توفير التعليم النوعي لأبنائها بما يحفز ويجذب جيلاً كاملاً جديداً للوظائف التقنية والصناعية ذات الأجور المجزية، وفي قدرتها على السيطرة على طاقتها وعلى أمنها واستقرارها وازدهارها غير المرتبطين بالمناطق غير المستقرة في العالم، وحيث “نصنع اقتصاداً يتمتع بالديمومة يتم فيه مجازاة ومكافأة العمل والجهد المتفاني والمخلص” .
وقد أطنب أوباما في خطابه المفعم بروح الأمل والتفاؤل وقبول التحدي الممثل في الوضع الاقتصادي الصعب للبلاد، وأشار بفخر واعتزاز إلى عودة الروح للنمو الصناعي مستشهداً باستعادة جنرال موتورز للتربع على عرش صناعة السيارات العالمية “هذا صحيح فلقد تخطت جنرال موتورز بمبيعاتها في العام الماضي منافستها الأبرز شركة تويوتا اليابانية التي تأثر إنتاجها ومبيعاتها بزلزال فركوشيما” ثم تحدث بإسهاب وعاطفة جياشة تبتغي الاقناع، عن الإصلاح الضريبي الذي يجب، من وجهة نظرة، أن يأخذ بالاعتبار الشركات الأمريكية التي تنقل الوظائف والأرباح إلى الخارج والشركات الأمريكية التي فضلت البقاء والعمل في السوق الأمريكية رغم معاناتها من أكبر معدلات للضرائب في العالم .
ولعل من المفيد إلقاء نظرة سريعة على القضايا الساخنة، الداخلية والدولية، التي تناولها أوباما في خطابه، وهي كما وردت في الخطاب تسلسلاً على النحو التالي:
* الانصاف في التجارة الدولية حيث أشار في هذا المقطع إلى أن “منافسينا لا يلتزمون بقواعد اللعبة “التجارية الدولية””، وسمى الصين بالتحديد، وقال إن بلاده رفعت ضدها دعاوى تجارية ضعف ما رفعته عليها إدارة الرئيس بوش السابقة “فضجت القاعة بالتصفيق” .
* تدريب قوة عمل ماهرة: في هذا المقطع طالب الرئيس أوباما الجمهوريين بالانضمام إليه في تدريب 2 مليون أمريكي للسوق وعدم التعلل بأن أمريكا لا تحتوي على الكفاءات .
* التعليم: “في الوقت الذي تقوم فيه الدولة “المنافسة لأمريكا” بمضاعفة إنفاقها على التعليم فإننا خفضنا مخصصات الإنفاق على التعليم وسرحنا آلاف المعلمين” .
* النفط والغاز: “فتحنا في السنوات الثلاث الأخيرة ملايين الهكتارات للاستكشافات النفطية والغازية، والليلة أوجه إدارتي لفتح أكثر من 75% من مواردنا البحرية المحتملة من النفط والغاز “تصفيق حار” . “وبذا نتجه لمصدر أكثر نظافة وأرخص، فضلاً عن أنه يعج بالوظائف وهو الغاز الذي سيكفي بلادنا 100 سنة “تصفيق” .
* القضايا الخارجية: اعتبر الرئيس أوباما الانسحاب الأمريكي من العراق انجازاً سمح بتركيز الجهود ضد القاعدة من باكستان إلى اليمن . وأردف قائلاً: “بدأنا نعد العدة للرحيل عنها بعد إلحاق أضرار فادحة بطالبان، وقد عاد عشرة آلاف جندي أمريكي إلى بلادهم، وثلاثة وعشرون ألفاً سيعودون هذا الصيف” . ويستطرد لينسب بصورة غير مباشرة لبلاده الفضل فيما حدث من ثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، مضيفاً أن إيران أصبحت معزولة “بفضل نجاحات دبلوماسيتنا” . وتحدث بعجرفة عن تصاعد الدور القيادي والتأثير الأمريكي المتعاظم في العالم، وشدد مرتين على عبارة الالتزام الحديدي تجاه “إسرائيل” والتعاون العسكري الأكثر متانة في التاريخ، وعن الانفاق العسكري أكد الرئيس أوباما الحرص على استمرار تفوق أمريكا عسكرياً مع خفض نصف تريليون “500 مليار دولار” في موزانة الدفاع .
بإيجاز شديد يمكننا استنباط النقطتين التاليتين اللافتتين في خطاب الرئيس أوباما الذي يمكن اعتباره برنامجاً ثانياً جديداً لإدارة البلاد الأمريكية:
* إن عودة آلاف الجنود “وأنه لابد من ا ستيعاب 135 ألفاً من المحاربين العائدين للوطن في الشركات والأعمال . وسوف تدفع الحكومة حوافز للشركات التي تستوعبهم” .
– من خطاب الرئيس أوباما وزيادة الميزانية الخاصة بالمتقاعدين العسكريين والعمل على استيعابهم في الدفاع المدني ووظائف أخرى، يعني أن هناك مشكلة اقتصادية اجتماعية جديدة ضاغطة تتصل باستيعاب هؤلاء العمال الفائضين، في الوقت الذي وصل فيه معدل البطالة إلى 10% من قوة العمل النشطة اقتصادياً .
* إن أمريكا منقسمة انقساماً حاداً بين الجمهوريين والديمقراطيين، حيث حفل خطاب أوباما بالكثير من العلائم والإشارات الدالة على هذا الانقسام العميق . وكل ما يتمناه الأمريكيون الحريصون على استقرار وازدهار بلادهم ألا يكون الرئيس أوباما قد استنفذ كل ما في جعبته، وذلك أخذاً بالاعتبار توقيت الخطاب ونبرته ومدته التي لا توازي جميعها الهجوم الضاري للجمهوريين عليه واتهامه بأنه يعمل على تقسيم أمريكا طبقياً .
إنه كما قلنا خطاب دعائي انتخابي بامتياز، فهو وإن حاول تشخيص علل النموذج الأمريكي “المتقادم”، إلا أنه كان أكثر حرصاً على دغدغة مشاعر الأمريكيين من جديد، ومغازلة الجمهوريين ومحاولة التودد إليهم بخطاب وطني “جامع” يحاول استثارة الهمم والنخوة الأمريكية، ما ورط خطابه وأوقعه في بعض الدوغمانية “برسم المكاسب الهزيلة والمضحكة التي استدعت تصفيقاً حاراً”، ومن حيث إن محاولة كسب ود الجمهوريين بهذه الطريقة الاستجدائية، غير مجدية أصلاً وبإيجاز شديد جداً، يمكن القول إن هنالك الكثير من البقع الداكنة في النموذج الأمريكي التي تحتاج معالجتها إلى ما هو أكثر من المقاربات الخطابية البلاغية
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.