أمريكا بين ثورتين.. وإحياء مشروع التقسيم
ستون عاما مرت ولم تتغير السياسة الأمريكية ولا العقلية التي تحكمها في اطار فرض النفوذ والسيطرة علي العالم, باعتبار أن واشنطن هي مركز الكون..
ستون عاما مرت علي التجربة الأولي للتصادم بين امريكا وبين الثورة المصرية في يوليو1952 التي قادها مجموعة من ضباط الجيش الشبان للتخلص من الاحتلال البريطاني واعوانه من الفاسدين السياسيين, وفي مقدمتهم الملك رأس الحكم.. والآن يأتي التصادم الثاني لواشنطن مع ثورة مصرية من نوع خاص اشعلها الشباب وتعاطف معها الجيش واختار أن يقف الي جانبها في مواجهة نظام حكم افسد كل مناحي الحياة من سياسة واقتصاد وتعليم وصحة وثقافة وفن وعلاقات اجتماعية, وعمل علي تقزيم الدور المصري وتراجعه في الإقليم الذي يضم دولا لم تكن لتعرف معني ان تكون دولا دون المعونة والمساعدة المصرية في اعقاب ثورة مصر الأولي عام52.
في التعامل مع الثورتين المصريتين فشلت الادارة الأمريكية في فهم واستيعاب اسباب الانتفاضة والحماس سواء في الثورة الأولي التي نفذها شباب الجيش ووقف وراءه الشعب بكل طوائفه, أو في الثانية التي اشعلها الشباب وحماها الجيش.. فشلت امريكا في التخلي عن عقلية ومنهج راعي البقر الذي يسعي الي السيطرة بالقوة علي ما يعتقد انه محيطه الحيوي.. والمحيط الحيوي الأمريكي هو العالم بأكمله.!!
في التعامل الأمريكي مع ثورة يوليو52 كان الهدف هو الاحتواء الكامل لمصر الثورة والشعب والنظام الجديد ضمن منظومة عسكرية واقتصادية وثقافية تبدأ بالانخراط في حلف بغداد للمشاركة في حصار الاتحاد السوفييتي والدخول في شراكة وتعايش كامل مع اسرائيل.. لم تفهم ولم تستوعب الادارة الأمريكية مغزي أن يلتف الشعب حول الجيش في مواجهة الفساد والظلم, ومن أجل التحرر من الاحتلال البريطاني, والتوق الي حياة كريمة ونظيفة.. ارادت واشنطن استبدال الاحتلال البريطاني باحتلال آخر امريكي بدعوي التحالفات العسكرية لمواجهة خطر الشيوعية.
وكانت أن سحبت امريكا دعمها لمشروع السد العالي وتراجع البنك الدولي عن التمويل وبدأت المواجهات المباشرة والعلنية مع الثورة المصرية الي أن نجحوا في استدراجها الي فخ حرب1967 وحدث ما حدث من انتكاسة للتجربة الثورية المصرية ادت الي انهيارات سياسية واقتصادية واخلاقية واجتماعية, ولم تنجح حرب اكتوبر- رغم الانتصار العسكري في وقف التدهور والتراجع المصري حيث تحالف النظام الحاكم الجديد مع الولايات المتحدة وتنكر للمكتسبات التي حققتها ثورة يوليو في كافة المجالات, وهو الأمر الذي اعتقد انه يحقق له الاستمرار في السلطة, ولكن القدر لم يمهله وسقط في واقعة المنصة المأساوية.. ومرة أخري لم يستوعب النظام الحاكم في مصر في عهد مبارك الدرس ومضي في طريقه وراء الأوهام الأمريكية التي أوصلته الي معاداة شعبه وعاداته وتقاليده وأصبح رهينة لدي المصالح الضيقة لأهل بيته في الاستيلاء علي الحكم بالتوريث.
وفي التعامل الأمريكي مع الثورة الثانية في يناير2011 التي فاجأت كل العالم بمن فيهم المصريون انفسهم, كانت واشنطن قد تمكنت أكثر من السيطرة علي العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وبعد نجاحها في نشر القيم والتقاليد الأمريكية التي سادت العالم من خلال سياسات ومناهج العولمة التي كانت لمصر نظاما وجانبا كبيرا من شبابها نصيب كبير من التشبع بأفكارها.. كانت الثورة الشبابية المصرية بكل نقائها وتلقائيتها تربة صالحة لاعادة غرس الفكر الاستعماري من جديد, ولكن في ثوب من التعاطف مع الشباب الثوار الذين تحركوا بدون قيادة وبدون استراتيجية وبدون خطة طريق سوي الاصرار علي اسقاط النظام.. ويبدو أن الأداء المشرف للقوات المسلحة التي وقفت بكل تاريخها وتراثها لحماية الثورة وانقاذ مصر الوطن والدولة والشعب من الدخول الي خراب الحرب الأهلية والفوضي الشاملة التي سيطرت علي المشهد الليبي واليمني والذي يدور حاليا بقسوة علي الساحة السورية.. يبدو أن كل ذلك قد أثار حفيظة الذين تصوروا أن سقوط نظام مبارك سوف يعني انهيار الدولة المصرية.. فبدأت المناورات والضغوط من كل صوب.
ماذا يحاك للثورة المصرية الشابة, وماذا يدبر ضد الوطن والدولة المصرية التي عرفت أول حكومة مركزية في العالم ؟.
علي مدي عصور التاريخ القديم والحديث كانت الأخطار الجسيمة التي تتعرض لها مصر تأتي دوما من الخارج عن طريق الغزوات العسكرية التي غالبا ما كانت تتكسر علي ايدي أبناء مصر البواسل, أو كانت تنجح في انتصار عسكري مؤقت, ولكن أبدا لم تنجح في كسر الارادة السياسية الشعبية في العيش الحر, وبعد حين من الزمن كان الغزاة يخرجون أذلاء منكسرين.. كان الأعداء معروفين بالاسم والملامح والجنسية والعرق, وكان من السهل التكاتف والتخطيط لمواجهتهم والتفوق عليهم.
الآن وبعد ثورة يناير تتعرض مصر لأخطر هجمة واشرس غزوة.. انها الغزوة الداخلية التي ينفذها بعض من أبنائها الذين وقعوا في منتهي البساطة والسذاجة ضحايا في شباك أعداء مصر التقليديين مصدقين انهم يعلمونهم كيف يحيون الحياة الديمقراطية الكريمة وهم في واقع الأمر يستخدمونهم كرأس حربة لنشر الفوضي وهدم الوطن, واعادة إحياء مشروعات التقسيم القديمة التي تحقق اغراض الأعداء ليكونوا وحدهم هم السادة والمهيمنين علي مقدرات هذه البقعة الاستراتيجية من العالم.
<< عار علي هؤلاء النفر من شباب مصر أن ينساقوا هكذا وراء أعداء الأمة من أجل نشر الفوضي وتقسيم البلاد.. عار عليهم أن يقعوا في الفخ رغم علمهم المسبق بخطة واستراتيجية الفوضي الخلاقة.. والعار الأكبر علي امريكا الدولة الأعظم في العالم ألا تكون سياساتها بنفس قدر حجمها ووزنها.. العار علي واشنطن ان تنزلق الي هذه المؤامرات الدنيئة.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.