The Green Paper

<--

الورقة الخضراء!! * خيري منصور

ذات يوم قدم الشاعر الامريكي والت ويتمان تفريقا حاسما بين ورقتين.. احداهما كما قال: الورقة الدولار، والاخرى ورقة العشب او الوردة.

فكلا الورقتين لونه اخضر، لكن الحياة كلها في انساغ العشب والموت كله في الورقة الميتة، بالطبع سيبدو هذا الكلام شعريا ورومانسيا، لمن حولوا الدولار الى وثن على غرار هبل وعبدوه.

لهذا كان ويتمان وامثاله من طلائع النهضة الامريكية اقرب الى البراءة وكل ما بشروا به تحول الى براعة براجماتية في تدمير المثل والكوابح الاخلاقية والعدل. وقد لا نجد في العالم مفكرين وشعراء سخروا من بلادهم كما حدث في الولايات المتحدة. بحيث تحولت نيويورك الى عاصمة هجاء في الادب.

وللمثال فقط نذكر من لعنوا حظهم بالولادة كأمريكيين، ومنهم كورسوا وكمنجز وميلر وجيري روبين واخيرا تشوسكي.

فمنهم من قال ان الزيت او الشحم الذي يستخدم لتليين المفاصل الصدئة في الاسلحة الامريكية هو من دم ضحاياها بدءا من الزنوج.

وحين زار هنري باربوس امريكا، ورأى ما رأى قرر ان يخرج لسانه لجورج واشنطن من خلال تمثاله الشهير، اما روبين فلم يستخدم اسم امريكا الا بشكل ساخر وبثلاثة حروف اضافية الى الكاف لتصبح امريقا!

لقد انتصرت ورقة الدولار على ورقة العشب تماما كما تحولت الدولة المبشرة بنهاية الاستعمار في الحرب العالمية الثانية الى استعمار أعنف وأشد، فهي تصدر القمح والقمع معا وكأنهما توأمان امريكيان، وحدث ان اختلط القمح بالبارود في فضاء افغانستان ذات كرم امريكي نادر هو كرم في القتل والابادة لكنه مغطى بسنابل القمح.

ولا يزال العالم يذكر تلك اللحظة المجنونة التي تمرد فيها جندي امريكي في فيتنام عندما قال له الضابط المسؤول عنه انه اباد قرية بكل ما فيها ومن فيها لانقاذها.

فنظرية الابادة من اجل الاغاثة، والاحتلال من اجل التحرير والتجويع من اجل الاشباع هي امريكية خالصة، جاد بها برغمانوس الابيض على الملونين من كل جنس، وثمة من المتمردين الامريكيين على هذه التعاليم من يرون بانها اشبه بروما القديمة مقابل كون اوروبا اشبه باثينا، اي الفلسفة والثقافة مقابل الخوذة والبارود، لكن اثينا الجديدة ايضا لم تقدم للعالم فلاسفة فقط، بل قدمت استعمارا وحشيا وتمددت خارج حدودها لتمتص نخاع الارض ومن يعيشون عليها.

ما من احد اليوم يفاضل بين الدولار الاخضر وورقة النعناع، لان العالم جاع وتشرد وعانى من اوبئة فتكت بالملايين ان لم يكن بالمليارات.

ولان الرأسمالية ذات الانياب، في ذروة توحشها قد تأكل نفسها، فان من شاهدوا فلما امريكيا تسجيليا بعنوان هذه هي امريكا أدهشهم ما رأوا من المشردين والجياع وسكان العالم السفلي الذين يلتهمون الفئران في الانفاق.

وثمة حضارات حسب تصنيف أبرز مؤرخيها من طراز توينبي وجيبون ووايتهد واشنجلر وغيرهم تفرض على العصر الذي تعيش فيه منظومة مفاهيمها وقيمها الخاصة، فكل ما هو امريكي كميّ وضخم او كما يسمى (هيوج) وكل ما لا يتأسس على المنفعة المباشرة لا قيمة له.

انسان العصر الامريكي او “الامريقي” حسب تسمية جيري روبين هو عبد الموبايل وضحية الفيس بوك، يعيش حياته بكل مجالاتها بشكل افتراضي فقط، لكنه يموت تماما وبكامل وجوده لتكتشف بعد فوات الاوان ان اللون الاخضر الاصيل هو للعشب وليس للدولار!

About this publication