The Syrian Crisis and the New World Order

<--

شكل انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة، نقطة تحول حاسمة في تاريخ النظام العالمي لمصلحة تفرد القطب الأميركي، وخلال أكثر من عقدين تربع خلالهما هذا العملاق على عرش النظام «أحادي القطبية»، شكلت بعض الأحداث نقاطاً مهمة ومفصلية في تاريخ هذا التموضع، ومن أهمها ما سمي «الحرب على الإرهاب» التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، عقب هجمات 11 أيلول 2001، وما تبعها من سياسة (عرض العضلات) عبر القواعد والجيوش الأميركية المنتشرة في العالم وخاصة ساحات الشرق الأوسط ومن أفغانستان إلى العراق.

والحدث الثاني، وربما يكون هو الأكثر أهمية، هو موجة الخريف المسماة اليوم «الربيع العربي» الذي شهده بعض البلدان العربية.

وعبر الربط بشيء من المقارنة بين ما شهده النظام العالمي خلال الحرب الباردة، وما يشهده من تطورات وتحولات اليوم، يمكن ملاحظة أثر هذين الحدثين كبوابة لبوادر تحول في بنية هذا النظام، صحيح أن حرب بوش الابن على «الإرهاب» كانت بمنزلة تتويج للتموضع الأميركي الأحادي كقطب وحيد، ولكن لا يمكن إغفال متغير مهم في الجهة المقابلة وهو وصول الرئيس (القوي) فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا وسعيه لإعادة إحياء الأمجاد الروسية.

من هنا يكون الحدث الثاني «الربيع العربي» هو المقياس الحقيقي، لمدى نجاح سياسة بوتين لإعادة الموقع الروسي على العرش السوفييتي السابق، أو لقدرة العملاق الأميركي على الحفاظ على تموضعه الأحادي، أو حتى خيار ظهور لاعبين جدد يتشاركون هذه القمة.

وقد يكون ربط مراقبين لما يحدث في منطقتنا اليوم بمرحلة الحرب بالوكالة التي شهدتها الحرب الباردة عبر تذكر أزمة الصواريخ الكوبية (مثلاً) في ستينيات القرن الماضي، ومقارنتها اليوم بالازدحام الكثيف للأساطيل والبوارج الحربية قبالة الشواطئ العربية وخاصة في مياه البحر المتوسط، مؤشراً واضحاً لإرهاصات تحول ما، يمكن تحديد ملامحه عبر تقسيم الدول الفاعلة فيه إلى ثلاثة مستويات:

1- دول المستوى الأول: ويمكن تسميتها «دول رأس الهرم» في النظام العالمي، ويشمل هذا المستوى دولاً «عملاقة» تتدرج من قطب النظام (الأميركي) الأوحد، نزولاً إلى دول (كروسيا، والصين…) وهي دول غير مستقرة في مكانها بل بدأت بالحراك والنمو، في محاولة لمنافسة الأميركي وتقليص الفارق في المستوى بينها وبينه، أو حتى التفوق عليه..!

2- دول المستوى الثاني: «الدول الطامحة» وتشمل دولاً فاعلة وذات وزن إقليمي نسبي، كبعض الدول الأوروبية، الهند، البرازيل… وغيرهما، إضافة إلى تكتلات ومنظمات باتت تشكل السمة البارزة والأكثر فاعلية في التجارة والعلاقات الدولية.

3- دول المستوى الثالث: «دول التفاعل»، وهي دول ذات أهمية ووزن جيوإستراتيجي معين، ولكن تمر بمرحلة تحول أو انتقال والأهم تمر بأزمات بدرجات متفاوتة، تشكل مدخلاً لدول المستويين الأول والثاني لتدخل وتتفاعل عبر تياراتها الوكيلة داخل هذه الأزمات.

من هنا وعبر تفاعل هذه المستويات الثلاثة يمكن ملاحظة بعض المتغيرات التي تشكل بوادر للعودة الروسية، والتي ترافقت مع إنهاك وتعب بات واضحاً على القطب الأميركي، فمؤشرات الاقتصاد والأزمات المالية التي تجتاح الغرب، شكلت البوابة التي اختارها الروسي لطرح قراءته التي يمكن وضعها تحت مسمى «سياسة ملء فراغ معاكسة»، فسياسة ملء الفراغ التي طرحها الأميركي أيزنهاور في خمسينيات القرن الماضي بعد العدوان الثلاثي على مصر لملء الفراغ مكان فرنسا وبريطانيا في الشرق الأوسط، يمكن أن نرى أن الروسي أعاد استخدامها اليوم، مستغلاً قراءة فرنسية وبريطانية وحتى أوروبية بشكل عام، ولكن لمؤشرات التراجع الأميركي وسعيهم لملء الفراغ مكانه للعب دور أكبر في المنطقة، متوهمين أن ذلك سيكون مخرجاً من أزماتهم المالية المتزايدة، ومن هنا يمكن فهم الموقف الروسي في عدم الاعتراض على دخول الناتو لليبيا، فالروسي لا يريد أن يكون المنافس الوحيد للولايات المتحدة ما دام بإمكانه إدخال لاعبين أكثر في هذه المنافسة، وبذلك يضمن تحقيق أكثر من هدف بحركة واحدة، فإدخال الناتو إلى ليبيا يعني لاعبين كثر في المنطقة وهم وإن كانوا حلفاء ومراعين للمصالح الأميركية إلا أنهم من الدول «الطامحة» ولا يستطيعون إغفال مصالحهم وطموحهم بالدرجة الأولى، والهدف الثاني هو إغراق هذا الحلف المأزوم مالياً بحملة إذا ما ربطت بتزايد أزمة اليورو يوماً بعد يوم، وتصريحات اقتصاديين أوروبيين بأن الأزمة المالية اليوم أكثر خطورة منها عام 2008 ووصول بعضهم حد توقع قرب انهيار منظومة اليورو، يكون الربط خير دليل على أن فاتورة الدخول إلى ليبيا أكبر من حسابات وطموحات الغرب ونقطة تسجل لحنكة روسية، إضافة إلى الهدف الأهم والرسالة الأخطر التي تمثلت بتقديم الدليل الملموس للصين بأن هناك دولاً (طامحة وطامعة) بدأت بالحراك للسيطرة على منابع النفط والثروات الأخرى، وخاصة في القارة العذراء إفريقيا، ومن ثم لا يمكن للصين أن تكتفي بدور المتفرج بأي تحرك أو خطر قادم.

بذلك وبعد انطلاق العمليات العسكرية في ليبيا والاتهام الروسي للحلف بإساءة استخدام التفويض الدولي والمهام المنوطة به، وتكشف الدور الحقيقي لتسابق دول الغرب «الطامحة» للعب دور أكبر عبر تغيير الملامح السياسية في منطقة الشرق الأوسط، ووصول الرسالة إلى الصين، انتقل التفاعل إلى نقطة «المواجهة»، التي يفتح خلالها جميع الملفات العالقة والمصيرية كالملف النووي الإيراني… وغيره، وتربط جميعها بالساحة التي تكون فيها العنوان والكلمة الفصل وهي الأزمة في سورية، فعبر هذه الملفات والربط يمكن لأطراف ومستويات في النظام العالمي أن تعلن عن تموضعها الجديد، أو تفضح تراجع مستوى أطراف منافسة لها، عبر مجموعة من المؤشرات:

1- المؤشر الأول: الدور الإسرائيلي:

شكلت إسرائيل (الحليف الأول للولايات المتحدة) رأس الحربة والسلاح الأميركي في المنطقة لبرهان بقاء دوره أو تغطية علامات تراجع نفوذه، وتمثل هذا الدور بالتصريحات الإسرائيلية النارية التي وصلت حد التهديد بالحرب ضد إيران، وعن طريق هذا التصريح «الفخ» جاء مؤشر التراجع الأميركي، فهذا السلاح ذو حدين والأميركي أيقن أن اللعب به قد يجرحه أيضاً، لذلك كان لزاماً عليه مراجعة حساباته بالتهديدات الإسرائيلية، ليقتنع بعدها أنه لا يستطيع تحمل فاتورة حرب ضد إيران يورطه فيها حليفه في المنطقة، فقرر إرسال رسالة إلى الحليف (قبل العدو) تمثلت بسحب بارجته الحربية من مضيق هرمز تحت التهديد الإيراني.

ورغم أنه لا يمكن إلغاء احتمال إقدام إسرائيل على توريط «العالم» بحرب لا يمكن التنبؤ بنتائجها، إلا أن فرص هذا الاحتمال تراجعت كثيراً، فالرسالة الأميركية يبدو أنها وصلت إلى الحليف لتظهر في الأروقة السياسية والإعلام الإسرائيلي عناوين كثيرة تترجم هذه القراءة، يأتي على رأسها عنوان «إسرائيل تستعد لتقبل إيران نووية»، ولتنقل صحيفة «هآريتس» أيضاً أن: «إسرائيل وأميركا ألغتا التمرين العسكري المشترك تفادياً لإغضاب إيران».

2- المؤشر الثاني: الفيتو المزدوج (الروسي- الصيني) الأول:

والذي أسقط مشروع قرار في مجلس الأمن ضد سورية (نهاية العام الماضي)، فصحيح أن الجميع قرأ في هذا الفيتو عودة روسية واضحة، لكن الأبرز في هذه النقطة يأتي من الصين أو كما سماها باحثون وسياسيون أميركيون «العملاق الصاعد» مقابل تراجع أميركي، مقترحين ومنذ سنوات تقديم طمأنات أو حتى «هدايا» لعدم إثارة القلق الصيني في محاولة لكبح أو تخفيف سرعة صعوده، لكن المفاجئ أن هذا الفيتو يعني دخول الصين من البوابة التي اقترح الأميركيون الهرب منها وهي «المواجهة».

3- المؤشر الثالث: ويبنى على نتائج المؤشر الثاني:

وهو انتقال ظاهرة التكتلات الدولية إلى داخل مجلس الأمن: لتلعب دوراً أكثر فاعلية داخل أروقته، فبعد سقوط العديد من الطروحات لإصلاح هذا المجلس، وخاصة مسألة توسيع تمثيل الدول داخله بعد زيادة عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة (193 عضواً في الأمم المتحدة يمثلها 15 دولة فقط في مجلس الأمن 5 منها دائمة العضوية)، ولكن بما أن التعديل يعتبر من الأمور الإجرائية (المهمة) فهو يشترط موافقة تسع دول على الأقل من دول مجلس الأمن بينها جميع الدول الخمس دائمة العضوية، ومن البديهي أن هذه الدول الدائمة لم ولن توافق على أي تعديل لميثاق الأمم المتحدة من شأنه تقليص مزاياها داخل الهيئة الدولية، وبذلك يشكل ظهور تكتل «البريكس» بخمسة مقاعد في المجلس العام الماضي (الصين- روسيا- جنوب إفريقيا- الهند- البرازيل)، وبقاء الأربعة الأولى منها هذا العام وضمنها دولتان دائمتا العضوية تملكان حق النقض الفيتو، وظهور هذا التكتل إلى العلن لأول مرة عبر رفض مشروع القرار السابق ضد سورية، ومن ثم إمكانية تنمية هذا التكتل مستقبلاً ليصبح ظاهرة توازن القوى داخل المجلس ضد الإرادة الغربية- الأميركية، وتفقد القطب الأميركي واحداً من أهم عوامل قوته عبر تحويل مجلس الأمن لمنبر يشرعن تحركه ويعطيه التفويض الميثاقي للحفاظ على هيمنته وخدمة مصالحه عبر عناوين كثيرة (تدخل إنساني، حروب استباقية، نشر الديمقراطية، ضرب الإرهاب…)

4- المؤشر الرابع: الدور الجديد لطالبان:

لم يعد خافياً على أحد المسعى الأميركي لنقل مركز القيادة والثقل العربي إلى دول «قزميه» وعلى رأسها قطر لتلعب دور الوكيل الأميركي، ولكن المؤشر الأهم والأخطر في هذا الدعم هو الإعلان الأخير عن افتتاح مكتب لحركة «طالبان» في قطر، وبهذا الإعلان نفهم توقيت إسقاط الواجهة الأولى للحركة وعلى رأسها أسامة بن لادن لإتاحة الفرصة لصعود تيارات وقيادات جديدة داخل الحركة تستطيع الولايات المتحدة أن تتفاوض وتتحالف معها بواسطة حليفها القطري أو حتى كلام عن مسعى سعودي للعب هذا الدور في إعادة توجيه بوصلة طالبان ضد روسيا (أي إعادة الدور التاريخي لطالبان التي أوجدها الأميركي في وجه الاتحاد السوفييتي)، إذا الحسابات الأميركية في هذه الخطوة تأتي في خانة الاعتراف بانسحاب وتراجع الدور في المنطقة وبالتالي الاستباق بخلق وكيل في وجه تقدم روسي محتمل.

5- المؤشر الخامس: «ثنائية التنسيق السوري الروسي لحل الأزمة»:

فآلية إدارة وعلاج الأزمة من النظام السوري والتي تميزت بحنكة تختار الثبات والثقة في اختيار التوقيت المناسب لطرح خطوات العلاج انطلاقاً من الحزمة الإصلاحية على المستوى الداخلي، وصولاً إلى اللعب بسياسة «الثابت المرن» على المستوى الإقليمي والدولي، المحافظ على ثبات مواقفه والمستغل لمرونته التي تضمن له امتصاص أي ضغط والتعامل معه بإيجابية وإعادة ضخه بشكل معاكس لمصلحة ثباته وخدمة لمبتغاه في حل الأزمة، ونذكر هنا ثبات الموقف السوري تجاه تعديل مواد في بروتوكول الجامعة العربية بما لا يتعارض مع مبادئ السيادة السورية، ومرونة بموقف فاجأ كثيرين من غير المدركين لآلية التفكير السوري، عبر السماح بدخول بعثة مراقبي الجامعة إلى سورية، وهنا أيضاً ظهر التنسيق العالي السوري الروسي حيث أوضح وزير الخارجية وليد المعلم بأننا، استجبنا «لتمني» أصدقائنا الروس وسمحنا بدخول المراقبين.

ومن جديد أثمر هذا التنسيق والمرونة وإستراتيجية الحسابات ليأتي تقرير بعثة المراقبين عكس ما تمناه العرب فيعترف صراحة بحقيقة ما تعانيه سورية من تسليح عصابات وعسكرة تحركات وتحريض وتزييف إعلامي، ورغم انكشاف المسعى العربي الغربي إلا أنهم استمروا في مسعاهم فأوقفوا عمل اللجنة وأعادوا قذف الملف السوري إلى مجلس الأمن بيد عربية لم ترفض فقط حضور رئيس لجنة المراقبين (الدابي) مناقشات مجلس الأمن بل اجتزأت تقريره وانتقت منه ما يخدم مشروعها، لكن ليعود ويرتطم مسعاهم بفيتو مزدوج (روسي- صيني) شكل حائط الصد المنيع في وجه الجولة الثانية لإعادة اعتبار الغرب بحضور أمين عام جامعة العرب.

أخيراً: ورغم تعالي نبرات التصريحات والتصرفات التي تلت الفيتو الأخير من سحب سفراء إلى الدعوة لتنسيق جهود دولية جديدة تحت مسمى (أصدقاء سورية) وزيادة العقوبات ومحاولات عزل سورية، لكن بات واضحاً أن هذا الحراك يأتي من باب المكابرة فقط، فالغرب معترف ضمنياً بهزيمته في سورية، واستمراره في تصعيده ضدها يأتي من عدم قدرته على الإجهار بالهزيمة لكي لا ينعكس ذلك سلباً على الانتخابات القادمة لعدد من دول وزعماء الغرب وخاصة الرئيسين الفرنسي ساركوزي والأميركي أوباما.

والأهم أنه وبعد الفيتو الأخير فقد أيقن الغرب أن المسعى الروسي لإعادة توزيع أوراق اللاعبين داخل النظام العالمي وكسر الهيمنة والأحادية القطبية الأميركية لمصلحة عودة (روسيا والصين) قد أثمرت، فإرهاصات التحول باتت جلية وهو ما أعلنه الرئيس بوتين صراحة بقوله: «نحن أمام عملية تحول جذري للنظام العالمي، وانتهت ظاهرة أحادية القطب».

About this publication