America’s New Strategy

<--

يقرأ الكثير من المحللين السياسيين مستقبل العلاقات الدولية وطبيعة وجغرافية الصراع في العالم من خلال البوصلة الأميركية لسبب يتعلق بميكانيزم تلك السياسة التي هي في جوهرها ذات طبيعة براغماتية نفعية إلى درجة أن البعض يراها كثيرة الشبه

بنظرية النشوء والتطور والارتقاء لداروين حيث البقاء من الكائنات ليس للأكثر ذكاء وقوة وإنما للأكثر قدرة على التكيف والتأقلم، وهنا يبدو العقل السياسي الأميركي الأكثر مرونة في هذا الجانب إلى درجة أن ألكلسيس دوتو كفيل يقول: إن السياسة الأميركية محكومة بما هو حاصل الآن ، أو هنا، ولا شك أن هذه الخاصية لا تعني أن أميركا لا تمتلك رؤية استراتيجية للعالم ولكن للتدليل على الديناميكية التي تتسم بها، والمقصود بالديناميكية هو عدم التعامل مع الوقائع الجديدة برؤية مسبقة أو نمطية.‏

ومادام حديثنا عن استراتيجية جديدة فهذا دافعه ما جاء على لسان الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون في الخطاب السنوي عن حالة الاتحاد، حيث بين أوباما أن الاتجاهات الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية الأميركية بدأت بالتحول باتجاه المحيط الهادي وجنوب شرق آسيا، ما يشكل بنظر المحللين الاستراتيجيين تطوراً مهماً في بوصلة السياسة الأميركية أو على الأقل سلم أولوياتها منذ حرب فيتنام، وآية ذلك أن ثمة تحولات جيواستراتيجية قد حدثت في العالم لا بد للسياسة الأميركية أن تتكيف مع معطياتها ، بعد أن وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها في حالة نزيف حاد بشري واقتصادي نتيجة لحروبها في كل من أفغانستان والعراق والصومال وغيرها من بلدان الشرق الأوسطى ونظرت إلى القارة العجوز وهي تغرق في أزماتها المالية.‏

والحال أن المنطقة بالنسبة لها أصبحت محرقة هادئة وموتاً بطيئاً للامبراطورية العتيدة، وهنا نظر الاستراتيجيون الأميركيون شرقاً حيث المحيط الهادي ومصالح أميركا المستقبلية والتنين الصاعد منافسها الحقيقي على قيادة العالم وبلغة الأرقام تبلغ صادرات أميركا لتلك الدول مايزيد على 340 مليار دولار وهو مايمثل 55٪ من صادراتها إضافة إلى 850 ألف وظيفة لأميركيين ومئات الشركات العملاقة التي تعمل في الصين.‏

وعلى الصعيد العسكري والمنافسة على مناطق النفوذ فالصين هي العملاق الصاعد وعلى كل المستويات، فمن جانب نشرت الصين اجيالاً من الاسلحة فائقة التطور الى جانب تعزيز اسطولها البحري وهذا كله يستدعي من امريكا اعادة التوازن العسكري والجيواستراتيجي وهو ماعبرت عنه الوزيرة كلينتون بالقول: اننا نعيش عصر امريكا الباسفيكي.‏

استراتيجياً ماذا يعني لنا نحن العرب مثل هذا التحول ان حصل بشكل عملياتي؟ هل يعني أننا سنتخلص من كلفة واثمان التركيز الأمريكي على منطقتنا طوال اكثر من سبعة عقود؟ وهل ستدخل المنطقة عصر صدامات جديدة من نوع اخر؟ وهل ثمة قادمون جدد ام ان المنطقة قد خرجت من دائرة الصراع والاستهداف؟ لا شك انها اسئلة مهمة والاجابة عنها ليست بالامر السهل، فالمنطقة لا تأخذ درجة اهميتها من كونها اولوية في الاستراتيجية الامريكية او الغربية عموماً ولكن لأسبابها الذاتية وماتتمتع به من موقع جيوسياسي واهمية حضارية وماتمتلكه من ثروات، وقبل هذا وذلك وجود الكيان الصهيوني في قلبها، لكن لابد ومن الناحية الاستراتيجية من اخذ الموضوع وفق ترتيب سلم الاولويات الامريكية في الاعتبار، علما ان الحديث الامريكي عن التوجه نحو الباسفيكي رافقه على التوازي تأكيد على أن العلاقة الامريكية الاسرائيلية لا توضع في الاطار المصلحي، فهي علاقة ذات طبيعة خاصة ترتبط بالدور الوظيفي لإسرائيل في المنطقة وتأثير اللوبي اليهودي في الجسم السياسي الامريكي.‏

اما بالنسبة للمعطى الاخر وهو مايتعلق بدول الخليج، فلا شك ان راسمي تلك الاستراتيجية لم يخفوا اهتمامهم بما يسمى الحرص على امن الخليج واستقراره ، وهي رسائل اطمئنان لحلفائها من خلال الحديث عن سعيهم لمنع ايران من تطوير قوتها النووية والعسكرية، وهو برأينا ليس من اجل عيون حكام الخليج ولكن خوفاً على اسرائيل التي تعتبر ايران عدوها اللدود والخطر الاكبر الذي يهدد ماتسميه امنها واستقرارها ومستقبل وجودها.‏

لاشك ان الاستراتيجية الامريكية تريد ان توصل عدة رسائل لدول العالم من خلال ذلك التوجه، الرسالة الاولى موجهة للصين الشعبية ومؤادها ان امريكا لن تسمح للصين بالتمدد في منطقة الباسفيكي وانها ستوجد وتتعاظم سياسياً وفكرياً واقتصادياً.‏

أما الرسالة الثانية فهي لدول الخليج واسرائيل، فهذا التحول يجب ان لا يقلقكم كثيرا فالمنطقة لم تفقد اهميتها وربما فقط ترتيبها في سلم الاولويات الجديد، وأنها ستبقى جدية ولكن الامريكي يفضل في هذا الاطار الاستثمار في نفوذه السياسي لا بقوته العسكرية، وهذا يترجم لتحويل الدور العسكري للحلف الاقليمي، ولعل هذا هو احد افرازات وتجليات الأزمة في سورية والتكالب الاقليمي للتدخل في شؤونها.‏

اما الرسالة الثالثة: فعنوانها اوروبا تلك القارة العجوز التي اعادت اليها امريكا الحياة بفضل مشروع مارشال الذي انقذها اقتصادياً والمظلة النووية الامريكية التي حمتها من الحظر السوفييتي وتحولت الى مظلة سياسية لوقت مضى، فعلى هذه القارة ان تعتمد على ذاتها وتتحمل اعباء امنها ومعالجة اوجاعها الاقتصادية والمالية المزمنة وانها لن تكون بعد اليوم عبئاً استراتيجياً امريكياً.‏

خلاصة القول: إن امريكا المثخنة بجراحات حروبها ضد الارهاب وانعكاس ذلك على اقتصادها المريض، تريد ان تتحول بالمفهوم الاوبامي الى امريكا النفوذ لا امريكا القوة العسكرية، امريكا الحروب الناعمة وهو ماعبر عنه ليون بانيتا وزير دفاعها بقوله: انه تحول جوهري في طبيعة حروب امريكا الحديثة: قصف جوي او بحري من بعيد يستثمر فيه التفوق الالكتروني والتقاني والمعلوماتي، او ما عبر عنه بالقيادة من الخلف بمعنى اوضح حروب، دون كلفة بشرية انها حروب تقانة المعلومات وفائض القوة المعرفية.‏

لقد اكتشف الامريكيون فجأة ان كلفة ماسمي الحرب على الارهاب كانت باهظة، فجاءت بفلسفة جديدة عبر عنها الرئيس اوباما في آخر خطاب له عن حالة الاتحاد بقوله: سنبقى متحضرين ويقظين ولاسيما في الشرق الاوسط ولكن على العالم بأسره ان يعرف ان الولايات المتحدة الامريكية ستحافظ على تفوقها النوعي العسكري بقوات اقل عددا واسرع انتشاراً وتدخلاً واعلى تدريباً وتقانة.‏

إن مايدعو للاشمئزاز..هو ان الرئيس الامريكي الذي وعد العالم والشعب الامريكي وهو يخوض حملته الانتخابية بأنه سيغير السياسة الخارجية الامريكية التي كلفت الشعب الامريكي وشعوب العالم الكثير من الدماء والألم والمعاناة وروغت سمعة امريكا وزادتها سوداوية على المستوى العالمي، ويطل والى جانبه وزيرة خارجيته على الامريكيين وعلى العالم ليقول مامعناه: إن امريكا التي تريد أن تغير جلدها لا ترغب بتغيير طبيعتها المسكونة بعقلية الهيمنة.‏

About this publication