أميركا والبحث الدائم عن حرب
سمير التنير
قبل البحث في الاستراتيجية الدفاعية الأميركية الجديدة التي أعلن عنها باراك أوباما في بداية شهر كانون الثاني الماضي، لا بد من إلقاء نظرة سريعة على ما كانت عليه تلك الاستراتيجية في زمن الحرب الباردة وما بعدها، حين تربعت الولايات المتحدة على عرش القطبية الأحادية.
قبل 35 عاماً، كانت روسيا والصين قوى عظمى تهدد أميركا وتثيران حروباً في وجهها، وتسلحان حروب العصابات، وتؤيدان حركات التحرر الوطني في مختلف بقاع الأرض، وتقفان ضد أي اقتراح أميركي في مجلس الأمن. أما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد وقف البلدان في منطقة رمادية. لم يكونا مع أميركا ولا ضدها. وفي بعض الأحيان كانا يتعاونان مع الولايات المتحدة. وكانت ميزانية الدفاع الأميركية الأكبر في العالم، أما في روسيا فقد كانت تلك الميزانية تبلغ 35 صاروخاً عابراً للقارات، في حين كانت أميركا تملك 850 صاروخاً. وكانت أميركا تسيطر على امدادات الطاقة، وخاصة في ممالك وإمارات الخليج الواقعة تحت حمايتها المباشرة. وكانت دول الخليج تشتري الأسلحة الأميركية، وتضع أموالها في البنوك الأميركية، وتقبل كل الإملاءات الأميركية. وهذا الوضع سيستمر إلى حين نفاد النفط (على ما نعتقد).
لقد غيرت حرب العراق وأفغانستان والحرب الاسرائيلية على لبنان في صيف عام 2006 والعدوان على غزة في بداية عام 2009 كل المفاهيم والاستراتيجيات العسكرية في العالم. وتسببت الحرب الاميركية في العراق بفوضى سياسية وصعود للإثنيات والمذهبيات، ودمار كامل للدولة، وهجرة 2 مليون عراقي إلى البلدان المجاورة. أما المفاجأة الأخرى فكانت في جنوب لبنان، حيث استطاع حزب الله الصمود وتحقيق الانتصار رغم تفوق الأسلحة الاسرائيلية.
يقول خبراء الاستراتيجية إن أميركا تواجه أخطار الجهادية الاسلامية، التي تلجأ إلى استعمال الانتحاريين في عمليات استشهادية. ولكن الخطر الأكبر يكمن في حصولهم على أسلحة دمار شامل. وعلى الرغم من تشكيل جبهة عريضة من الدول المعادية لهم والتي تتبعهم، فإن الجهادية الإسلامية تستمر في العمل ضمن خلايا صغيرة. كما تستند أيضاً إلى إثنيات متعددة مثل قبائل البشتون في أفغانستان وباكستان. ويمكن اعتبار حركة طالبان كحركة محلية، لا تتطلع إلى إقامة أنشطة في العالم، مثل تنظيم القاعدة.
يعتبر الخبراء الأميركيون إيران كدولة مارقة، وتشكل تهديداً لهم، على الرغم من ان الاقتصاد الأميركي يساوي 68 ضعفاً للاقتصاد الإيراني. وكما ان ميزانية التسلح الأميركية تعادل 110 أضعاف ميزانية الدفاع الايرانية. اما حصول إيران على القنبلة الذرية، فسيؤدي إلى نشوء وضع جيو ـ سياسي معقد جداً في الشرق الأوسط. ويقلب كل المعادلات والتوازنات.
أعلن باراك أوباما في بداية العام الحالي اعتماد استراتيجية عسكرية جديدة تعكس متطلبات التطورات الاستراتيجية التي تواجهها الولايات المتحدة، في القرن الحادي والعشرين، وخصوصاً في منطقة شرق آسيا لمواجهة الصعود الصيني. ولتقليص العجز المالي، الذي يقتضي خفض الانفاق العسكري بقيمة 487 مليار دولار للعقد القادم.
تضرب الاستراتيجية الجديدة صفحاً عن الحرب البرية طويلة المدى، على طراز حربي العراق وأفغانستان. ولكن الحضور الأميركي سيكون كثيفاً في منطقة شرق آسيا. كما ان التعاون مع حلف الأطلسي سيستمر. وستبقى أميركا متيقظة في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة من حيث التصدي لإيران.
تقضي الاستراتيجية الجديدة بخفض عدد القوات الأميركية والتخلي عن سياسات قديمة كانت سائدة خلال الحرب الباردة. بما في ذلك تخفيض الترسانة النووية، والفرق المدرعة الكبيرة، التي كانت معدة لمحاربة الاتحاد السوفياتي في السهول الأوروبية. وسيطال التقليص عديد القوات الأميركية في أوروبا التي يبلغ عددها 80 ألف جندي، لصالح أنشطة عسكرية أخرى مثل الاستخبارات، والارهاب، والتصدي لأسلحة الدمار الشامل، واستخدام الطائرات من دون طيار، والقاذفات وطائرات الهجوم، وتطوير القوات الخاصة، والمواجهة الالكترونية.
سوف يخفض عديد القوات الأميركية بموجب الخطة الجديدة من 570 ألف رجل إلى 490 ألف رجل، وذلك خلال العقد المقبل، وذلك بعد خسارة حربي العراق وأفغانستان وما تكبدته من تكاليف كارثية في الارواح والعتاد. ولذلك فإن الحروب البرية الطويلة المدى لن تتورط فيها اميركا بعد الآن. وسيجري عوضاً عن ذلك تقوية التحالف مع الدول الصديقة والاستخدام المكثف للقوة الجوية.
ستتخلى أميركا ايضاً عن خوض حربين في وقت واحد. وستكتفي بخوض حرب برية واحدة. ولكنها ستحتفظ بقدرة «هزيمة عدوان واحد ومنع أي أحد من تحقيق أهدافه ودفع ثمن غير مقبول في مسرح آخر».
على رغم الخفض في الميزانية العسكرية وفي العديد فإن واشنطن (على ما تقول الخطة الجديدة) مصممة على الاحتفاظ بتفوقها التقني والنوعي. سيُخفض الانفاق على صناعة الطائرات المقاتلة ويُركز على الطائرات بدون طيار. وسيجري المحافظة على عدد حاملات الطائرات (11 حاملة) للاحتفاظ بالقدرة على نشر القوات في أي بقعة من بقاع الأرض، ولمنافسة الصين.
ان التحول باتجاه آسيا والمحيط الهادئ أساسي في الاستراتيجية الجديدة، خصوصاً، لان المنطقة مرشحة لان تكون محور الاقتصاد العالمي، في القرن الحادي والعشرين. ولان التحديث العسكري الصيني يجري بسرعة. اما في منطقة الشرق الأوسط فلا يزال عدم الاستقرار يظلل المنطقة. وقد أطلق الربيع العربي تغييرات سياسية كبرى أعادت تشكيل المنطقة، بصورة غير مسبوقة. كما تبقى اسرائيل الركيزة الاساسية في استراتيجية واشنطن لأمن الشرق الأوسط محاصرة ومعزولة، أكثر من أي وقت مضى.
تحاول الادارة الأميركية من خلال استراتيجيتها الجديدة ان تنتهج أداء دفاعياً يوازن بين تركيزها الجديد على آسيا والمحيط الهادئ من جهة، وإلى متابعتها عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث تبدو مصالحها مهددة كما يتصور ساستها. وقد سارع معارضو أوباما، وخاصة المحافظين الجدد، إلى انتقاد الاستراتيجية الجديدة واعتبروها تقهقراً عسكرياً، سوف يشجع أعداء أميركا وخاصة ايران على استغلال الموقف. ولكن في كل الأحوال سيبقى الوجود الأميركي العسكري في الخليج العربي كثيفاً جداً، لحماية «الكنز» النفطي.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.