حدث أثناء حوار أجريته في التسعينات في واشنطن، مع مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشرق الأوسط، أن قلت له سوف أطرح عليك سؤالاً نظرياً: ألا ترى أن انحيازكم المطلق إلى “إسرائيل”، هو عمل ضد مصالحكم الهائلة في بلادنا العربية؟
وكانت إجابته: إن أي رئيس أمريكي يتولى السلطة، يضع أمامه من أول يوم، خريطة تبين له القوى الفاعلة والمؤثرة في المصالح الأمريكية . فإذا كان الأمر يتعلق بقضايا المنطقة، فهو عادة يجد أمامه الحركة الدائبة للدبلوماسية “الإسرائيلية”، وقواها الضاغطة داخل الولايات المتحدة، وفي المقابل يجد أمامه، ما نسميه “بالسكون العربي” .
ومادام السكون حالة مستمرة لا تتغير، ولا تشكل أي فعل مؤثر في أمريكا ومصالحها، فما الذي يدعو أوباما إلى تغيير السياسة الأمريكية؟
تذكرت هذه الواقعة ونحن نقرأ الكثير من التحليلات والتساؤلات، عما إذا كان أوباما سوف يغير من سياساته، تجاه الوضع بين العرب وإسرائيل، والقضية الفلسطينية؟
. .إن الرئيس الأمريكي لا يتخذ قرار السياسة الخارجية منفرداً . صحيح أن الرؤساء الأمريكيين قد يختلفون في توجهاتهم في بداية حكمهم، ومنهم من كان يريد أن يخطو نحو حل نهائي للمشكلة الفلسطينية، أو أن يحد من الانحياز الكامل إلى “إسرائيل”، مثل جورج بوش الأب الذي فرض على “إسرائيل”، حضور مؤتمر مدريد العام ،91 وكلينتون في فترة رئاسته الأولى (1992 1996)، وقبل أن تكبله القوى الصهيونية، بإثارة حملات عن علاقاته الشخصية، وأوباما حين جاء إلى القاهرة العام ،2009 وألقى خطاباً امتلأ بالنوايا الحسنة، ونيته في حل القضية الفلسطينية، وقبلهم كان الموقف الشهير للرئيس جيرالد فورد، حين أعلن العام ،1975 عن إجراء مراجعة شاملة لسياسة أمريكا في الشرق الأوسط، كرد على محاولة “إسرائيل”، التنصل من تعهداتها بشأن ترتيبات ما عرف بفك الاشتباك في سيناء، بعد حرب ،1973 والتي كانت أمريكا شريكاً في مفاوضاتها، وهو ما أرغم “إسرائيل” على التراجع وقبول ما تريده أمريكا وقتها .
لكنني أشرت إلى أن الرئيس في أمريكا محكوم بالتحرك فوق خريطة، يحددها له النظام السياسي الأمريكي، وهي التي تتحكم في خطواته، وأهم عناصرها، أن الضغوط تمثل عاملاً أساسياً في النتيجة التي ينتهي إليها قرار السياسة الخارجية .
وحسب التعبير الذي سبق أن قاله لي مسؤول كبير في واشنطن، “نحن مجتمع الضغوط”، وهو ما يشهد عليه سماح النظام، بدور فعّال، ومؤثر لما تسمى “بقوى الضغط”، وهي التي يضعها الرئيس في حساباته . وطبقاً لوصف كثير من خبراء السياسة الخارجية الذين كنت أتحدث إليهم أثناء سنوات عملي مديراً لمكتب الأهرام في واشنطن، فإن صناعة الرئيس قرار السياسة الخارجية، هو عمل أشبه بميزان من كفتين، فإذا كان هناك طرفان مختلفان، وعليه أن يحدد سياسته بشأن الميل نحو أحدهما، فإن من يضع ثقله وضغوطه في كفته، وتكون هي الراجحة، فإن الرئيس يميل بالقرار ناحيته، ودائماً تكون كفة “إسرائيل” هي الراجحة، وكفة العرب خالية من أي ثقل أو ضغوط .
ومن المعروف للذين عملوا واقتربوا من قلب الحياة السياسية في الولايات المتحدة، أن هناك سبع قوى مسموحاً لها بأن تكون شريكاً مؤثراً في قرار السياسة الخارجية، وهي: الرئيس، الكونغرس، وقوى الضغط، وجماعات المصالح، ومراكز البحوث السياسية، والإعلام، والرأي العام .
وفي قلب صناعة قرار السياسة الخارجية، هناك مبدأ أساسي عام تدور عليه هذه العملية هو مبدأ توازن القوى . فإذا كان الطرف الثاني الذي تتعامل معه الولايات المتحدة، يملك استراتيجية للسياسة الخارجية، محدّدة الهدف، وواضحة، ولديها قدرة على حشد إمكاناتها، لتكون سنداً داعماً لها، في التعامل مع الولايات المتحدة، عندئذٍ تحسب السياسة الأمريكية حساباً لها، وهو ما يدفعها إلى المرونة، وتغيير توجهاتها إذا اقتضى الأمر ذلك .
وبالنسبة إلى الحالة الراهنة مع أوباما، والسؤال المتكرر، عما إذا كان سيغير من سياسته تجاه المنطقة العربية، في ولايته الثانية، فإن الأمر لا يتعلق برغبة أوباما أو إرادته، بل يتعلق بطريقة عمل النظام السياسي في الولايات المتحدة .
وهنا نعود إلى خطابه بجامعة القاهرة يونيو/حزيران العام 2009 .، فبخلاف اللغة الدافئة التي احتواها الخطاب عن الإسلام وتسامحه، وتعاطف أوباما مع العالم الإسلامي، وإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني لأكثر من 60 عاماً، لتحقيق وطنه، لكن الأهم مما قاله، هو مبدأ أوباما في السياسة الخارجية، وهو الذي أشار إليه خطابه .
والمبدأ في السياسة الخارجية هو المحور الأساسي الذي تقوم عليه هذه السياسة . . ولقد جاءت في خطابه في جامعة القاهرة أكثر من فقرة تؤكد: ضرورة أن نعمل معاً، وأننا جميعاً نتشارك في هذا العالم، ويجب أن تكون هناك مشاركة مع الدول العربية لحل النزاع العربي “الإسرائيلي” . وهذا هو جوهر مبدئه للسياسة الخارجية الذي شرحه بعد ذلك في العديد من المناسبات، وتحدثت عنه تفصيلاً، كثير من مراكز البحوث السياسية، وهو مبدأ الشريكPartenership والقصد منه أن يكون الطرف الثاني صاحب المصلحة، طرفاً فاعلاً مؤثراً، وليس طرفاً ساكناً، ينتظر من الآخرين أن يحلوا مشكلته . هذا المبدأ نفسه لا ينفصل عن طريقة صناعة قرار السياسة الخارجية في أمريكا، والذي يتطلب من الطرف العربي، أن يكون هو الآخر عنصراً نشطاً متحركاً ضاغطاً، لأن تلك هي طبيعة النظام السياسي في الولايات المتحدة .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.