كان يمكن لهذه السنة الجديدة أن تبدأ بسقوط الولايات المتحدة في “هاوية مالية” لو لم يوقع الجمهوريون والديمقراطيون، في اللحظات الأخيرة من العام المنصرم، على اتفاق هو أقرب إلى المسكّن منه إلى العلاج . الهاوية المالية تعني إلزامية القيام بإجراءات تقشفية قاسية، مثل زيادة الضرائب بكافة أشكالها وعلى كل الشرائح الاجتماعية، وتخفيض الإنفاقات الحكومية في الميادين كافة، الأمر الذي كان سيقود على الأرجح إلى ركود اقتصادي ويحبط الآمال بالخروج من الأزمة .
بموجب الاتفاق، الذي سارع الرئيس أوباما إلى إصداره في قانون، سوف تزيد الضريبة على المداخيل السنوية الزائدة على 450 ألف دولار من 53 في المئة إلى 93،6 في المئة . لقد خطا كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي خطوة نحو الآخر . الجمهوريون كانوا يرفضون أدنى زيادة في الضرائب، لا سيما على المداخيل، وأوباما كان يريد أن تبدأ الضريبة من عتبة ال520 ألف دولار وليس 450 ألفاً . وتم تأجيل البت بمسألتي تخفيض الإنفاق العام ورفع السقف القانوني للدين العام إلى بداية مارس/ آذار المقبل .
وانعكس الاتفاق بشكل إيجابي على “وول ستريت” حيث ارتفع سعر الدولار في مقابل العملات الأجنبية، رغم غياب استراتيجية واضحة للخمس أو عشر سنوات المقبلة لوقف التصاعد الجنوني للدين العام الذي بلغ أرقاماً فلكية وقد يصل، عما قريب، إلى مستوى يتخطى الناتج الداخلي الإجمالي . والميزانية الفيدرالية الحالية بالكاد تكفي لخدمة الدين ونفقات الصحة والتقاعد، لذلك فالمطلوب زيادة الضرائب من جهة وتخفيض الإنفاق الحكومي من الجهة المقابلة، ولكن بطريقة مدروسة تفادياً للوقوع في الركود الاقتصادي، وهذا يتطلب شجاعة سياسية من الحزبين وتعاوناً وثيقاً بينهما .
الاتفاق الموقع مع بداية هذا العام يعبّر عن الوعي بمخاطر المرحلة . فقد توقع المراقبون أن يرفض الجمهوريون التوقيع على اتفاق ينقذ الإدارة الديمقراطية من مأزق محتم بذريعة أن المسؤول هو الرئيس أوباما، وقد انتخبه الأمريكيون فليتحمل المسؤولية . لكنهم يعلمون بأنه وعد بزيادة الضرائب على الشرائح الميسورة وإبقائها كما هي على 89 في المئة من الأمريكيين، وهذا ما كان يرفضه الجمهوريون خلال الحملة الانتخابية . والمنطق يقول إن الأمريكيين انتخبوه ورفضوا موقف الجمهوريين الذين عليهم إذن ألا يعاندوا الرأي العام اليوم كي لا يحملهم مسؤولية التدهور الاقتصادي ويعاقبهم في الانتخابات التشريعية المقبلة . وهكذا فإن الرئيس أوباما حقق نصراً سياسياً على الجمهوريين الذين اضطروا إلى القبول بما لا يقبلون به في العادة، وهو زيادة الضرائب على الأغنياء . لكن هذا النصر يبقى مؤقتاً لأن ورش العمل الحقيقية، في التربية والصحة والدفاع وقانون المالية العامة الجديد والتقاعد وغيرها، تبقى مؤجلة وهو تأجيل لن يستمر إلى الأبد .
إزاء ذلك يطرح السؤال حول ميزانية الدفاع الأمريكية، الأعلى على الإطلاق في العالم، هل سيتم تخفيضها؟ السائد حتى اللحظة أنها من المحرمات التي لا يمكن التعرض لها، لكن أصواتاً كثيرة في الكونغرس، ومن الجمهوريين أنفسهم، بدأت، على قلتها، تتكلم علناً في هذا المحظور وتقيم حجتها على سببين: الأول أنه في كل مرة تخرج الولايات المتحدة من حرب طويلة، فالمنطق يقول بتخفيض الميزانية الدفاعية، واليوم يفرض هذا المنطق نفسه بعد الانتهاء من حربي العراق وأفغانستان . السبب الثاني هو أن هناك إعادة تنظيم للحاجات الاستراتيجية الأمريكية، وهو ما يدعو إليه عدد من كبار المسؤولين التاريخيين في مجال الأمن القومي، من جمهوريين وديمقراطيين، أمثال هنري كيسنجر وزبيغنيو بريجنسكي، الذين يعتبرون أنه “من خلال إجراءات ذكية” من الممكن جداً تخفيض الإنفاق العسكري بشكل ملحوظ .
لقد نجحت الولايات المتحدة في تفادي الانزلاق إلى الهاوية المالية وتبنت إجراءات إنقاذية تسمح بالاستمرار في الاستدانة لمدة شهرين إضافيين، لكن بعد هذين الشهرين المقبلين إذا لم يتم رفع السقف القانوني للدين العام فقد تغدو الميزانية الفيدرالية في عجز عن تلبية خدمة الدين، وبالتالي في حالة إفلاس، وعليها عندئذ أن تسارع إلى اتخاذ تدابير فورية مثل وقف الإنفاق الحكومي في مجالات معينة . فالمعروف أن الدولة الأمريكية تستدين من أسواق الرساميل لأن مداخيلها المالية أقل من إنفاقاتها . وإذا منعت من الاستدانة بشكل كاف فإن عليها أن تتوقف عن الإنفاق أكثر مما تسمح به مواردها الضريبية . وهذا يعني وقف الإنفاق في مجالات التربية والصحة والدفاع وغيرها . وهذا الوضع أخطر من الهاوية المالية رغم وجود “تقنيات” (مثل طباعة المزيد من الأوراق النقدية، إصدار سندات خزينة جديدة، عمليات سواب، إعادة هيكلة بعض الديون . . الخ) تطيل عمر الأزمة وتؤجل الاستحقاقات . والكونغرس هو الذي يمنع ويسمح برفع سقف الاستدانة، وهنا تغدو المسألة سياسية بامتياز وفي إطار التفاهم أو التنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين .
المشكلة أن الأزمة إذا ما تفاقمت فقد تتخطى مفاعيلها الحدود الأمريكية لتشمل أوروبا على وجه التأكيد وربما العالم أجمع، حيث لا يزال الدولار هو العملة العالمية المعتمدة . ففي العام 2008 بدأت الأزمة في أمريكا ومنها طارت لتحط في أرجاء العالم الأربع . لكن هذه المرة قد يقود تراجع القدرة الاقتصادية الأمريكية بالتوازي مع صعود عمالقة اقتصاديين جدد إلى إعادة هيكلة النظام الدولي في اتجاه قدر أكبر من التعددية .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.