The American Occupation and the Delusion of the Lost Opportunity in Iraq

<--

لا أمر أكثر خطورة من أن تقع نخبة مجتمع في الأوهام وتطلق لخيالاتها العنان ثم تقود المجتمع أو تشكل وعيه. ولو راجعنا تاريخنا المعاصر في خمسة عقود مضت لرأينا أن حركة المجتمع وقواه السياسية كانت تقوم على أحلام وتمنيات أثبتت الأيام التي تصرمت هشاشة أساسها وضعف إمكانات تحقيقها. ومقابل هذه الطوباوية المفرطة فإن الواقع كثيرا ما كان صادما وبعنف، فالمجتمع لم يجن سوى الخيبة بمتبنياته أو بما فرضته نخبه السياسية وتوابعها الثقافية، وهي جميعا لم تكن يوما من إختياره الحر الواعي، وإنما من إفرازات سلطة قاسية لم تغادر ساحة الإستبداد إلا بفروق نسبية ضئيلة بين حاكم وآخر وبين عهد وسواه. وخيبة المجتمع لم تكن مجرد إضاعة فرص وموارد، بل والأهم من هذا كله ضياع دماء عزيزة نزف بها العراق وما زال حتى يومنا هذا.

عندما وقع الإحتلال الأميركي للعراق بدا كما لو أن عصرا جديدا قد إفتتح فصله الأول خاصة مع مفاهيم لم يعرفها العراق من أمد بعيد كالديمقراطية وحقوق الإنسان والإنتخابات والمجتمع المدني وما إلى ذلك من مصطلحات جديدة. وعلى أهمية كل من هذه المفردات في الخطاب السياسي الجديد في حياة الناس إلا أن نخبنا السياسية ومعها النخب الثقافية، التي تعتاش على ما تجود به أيديها، تعاطت مع الأمر بطريقة الأحلام والخيالات الجامحة إياها فتصورت وصورت للناس بأن صندوق الإنتخابات هو أشبه بعصى موسى عليه السلام السحرية، وإن كان هذا الجنوح نحو دنيا الأحلام بعيدا عن حقيقة الواقع يعني فهما سطحيا للواقع العراقي وتعقيداته وإشكالاته الكبرى، فإنه من باب أولى يجهل نوايا وأهداف وخلفيات القادم الجديد الى العراق المثقل بالكوارث والمآسي التي سببها تاريخ طويل من الإستبداد وآخره طبعة سوداء قاتمة وقاسية من هذا النوع من التسلط المدمر.

وأكثر الأوهام شيوعا بأن العراق سيكون على يد المحتلين الأميركان يابانا جديدا أو ألمانيا القرن الحادي والعشرين، وقد تم الترويج لمثل هذه الأحلام الوردية قبل الإحتلال وبعده، سواء في مقالات مكتوبة أو أحاديث شفوية، وحينما لم يتحقق مثل هذا الحلم إرتدت هذه الأصابع أو الأفواه في كتاباتها وأحاديثها تلوم العراقيين الذين فوتوا على أنفسهم فرصة ضائعة، بل إن كثيرا منهم صاروا يدعون العراقيين بأنهم شعب الفرص الضائعة، على إعتبار أن الفرصة السابقة كانت التفريط بالإستعمار البريطاني، مع أن شواهد التاريخ تثبت بأن البريطانيين خلافا للفرنسيين المتشبعين بمفاهيم الثورة الفرنسية وقيمها لم يدخلوا بلدا إلا وحافظوا على تقاليده السائدة وعمقوا تخلفه قدر ما يستطيعون وأعاقوا تقدمه. والأمثلة كثيرة ولعل في مقدمها الهند البلد الذي إعتاشت على خيراته قرنين من الزمن وتعرض لأكبر عملية نهب في التاريخ. وإذ يؤكد التاريخ بأنه لم تضع فرصة بإنتهاء الإحتلال البريطاني للعراق وآثاره لأن بريطانيا لم توفرها قط للعراق، فهل ضاعت فرصة أخرى في إحتلال أميركا وشريكتها بريطانيا للعراق.

وعلى أي حال فحتى يتبدد الوهم الياباني أو الألماني المفتعل، فإن اليابان وألمانيا لم يكونا بلدين متخلفين يعيشان على ريع النفط، بل بلدين رأسماليين متطورين. فاليابان سبقت أميركا في نهضتها الصناعية بأكثر من قرن ونصف القرن، وكذا ألمانيا، كما أن اليابان البلد الصغير كان يحتل قبل الحرب العالمية الثانية بلدانا كثيرة في جنوب شرقي آسيا بينها الصين، وقد دخلت ندا للقوى العظمى الصاعدة كالولايات المتحدة في الحرب. بمعنى أن لديها من القدرات والطاقات ما يكفي لتحتل مكانها كقوة عظمى عالميا. وحين هزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت أميركا التي تحتلها قد توجهت الى مخطط لإذلالها وإركاعها الى حد منع إستخدام اللغة اليابانية ومحاولة إحلال اللغة الإنكليزية محلها، ومنع رفع العلم الياباني أو التغني بأمجاد اليابان وغيرها من الإجراءآت المهينة التي كانت ستستمر في مسخ الشخصية اليابانية لولا أن حدثا طارئا قلب المخططات الأميركية رأسا على عقب، هو إنتصار الثورة الشيوعية في الصين وتأسيس جمهورية الصين الشعبية، ما جعل أميركا تبدل خططها وتتجه الى أن تستعيد اليابان قوتها ودورها الإقتصادي على الأقل حتى لا تقع بفعل ظروف الإحتلال وإجراءآته في براثن الشيوعية العدو الأخطر يومذاك للولايات المتحدة والغرب من ورائها. وقد كانت مقومات اليابان لإستعادة جبروتها الإقتصادي متوافرة وقائمة، ولم تتحول اليابان من بلد متخلف أو فقير الى بلد متطور وغني بفعل الإحتلال الأميركي أو المساعدة الأميركية، بل بحكم ماضيها الذي واصلته بعد رفع الكثير من القيود التي كانت تحد من حركتها ونيلها الحرية الرسمية من الإحتلال الأميركي الذي تحول وجوده الى حضور صديق تحتاجه اليابان لحماية نفسها وبشروطها السيادية وليس بشروط المحتل، حيث تحولت العلاقة الى علاقة ندية أعادت لليابان دورها ومكانتها بالرغم من القيود التي تحد من إتجاه العسكرة اليابانية، وهي شروط تستجيب في الوقت نفسه لتوجه ياباني داخلي قدر إستجابتها للحاجات الدولية الملموسة.

وألمانيا الغنية عن التعريف بدورها هي الأخرى لم يكن تطورها نتيجة الإحتلال الأميركي، بل كانت واحدة من أعمدة النظام الرأسمالي العالمي في الغرب. وحينما خاضت الحرب العالمية الثانية فقد كان الهدف تعديل التوازنات الدولية والدفاع عن المصالح الإقتصادية لبلد رأسمالي صاعد يسعى الى حيازة حصة وافرة في السوق الدولية. وعندما أسفرت الحرب العالمية الثانية عن تدمير ألمانيا وخرابها فقد كان لاستثمارات الولايات المتحدة ومعها الغرب “مشروع مارشال” هدف إعادة تأهيل بلد رأسمالي يصب تطوره في مصلحة النظام الرأسمالي العالمي، فضلا عن أن إنتماء ألمانيا للغرب المسيحي كان دافعا إضافيا لعملية إعادة التأهيل. وعلى هذا فإعادة الحياة الى ألمانيا كانت عملا مثمرا وذا مردود على مختلف الأصعدة بالنسبة للغرب، مع أن هناك عاملا مهما في ذلك العمل الجبار الذي أعاد ألمانيا المدمرة في غضون عقد من الزمن الى سابق عهدها كقوة إقتصادية كبرى تعززت قوتها لاحقا بوحدتها، وهو أن أميركا حينما تصدرت الغرب في تقديم العون الى ألمانيا كانت على درجة كبيرة من الغنى، فهي لم تستنزف الحرب منها ما استنزفته من حلفائها الغربيين الآخرين، كما أن إعتماد عملتها الوطنية كوسيلة نقدية للمبادلات الدولية بموجب إتفاقية برايتون وودز العام 1944 أعطاها ميزة الحصول على مختلف الموارد والسلع والخدمات من مختلف بلدان العالم مقابل الورقة النقدية التي تم إعتمادها عملة عالمية، أي مجانا، بعد طرح قيمة إنتاج هذه الورقة أو مقابل دين متصاعد لا مؤشر ولا إمكانية لقيام الولايات المتحدة بتسديده يوما ما، ووضعها ذاك بخلاف الحال عند إحتلالها للعراق حيث كانت مثقلة بالأزمات الإقتصادية المتلاحقة، وهي تبحث مع حلفائها عن وسائل لتجاوز هذه الأزمات بالبحث الدائب عن مصادر للنهب المستمر لثروات العالم تحت حجج وذرائع مختلفة وبطرق ووسائل متغيرة. ولا شك بأن ما تشهده المنطة العربية اليوم يندرج ضمن هذا الهدف. وإحتلال العراق مع الأهداف الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة لا يخرج عن إطار البحث عن فرصة نهب أخرى لموارد البلدان التي تعاني من مشكلات الإنكشاف الأمني أمام القوى الكبرى وخاصة في المنطقة العربية.

وفي طليعة الأهداف الإستراتيجية الكبرى أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين ومعهم “إسرائيل” تعتمد سياسات بعيدة الأمد لتحقيق ما يسميه منظر هذه التحولات عالم الإجتماع والألسنيات والسياسة الكبير برنارد لويس بتصحيح الخطأ البريطاني الذي قضى في الربع الأول من القرن الماضي بإنشاء دول في المنطقة لشعوب ما زالت تعيش طور البداوة وهي غير قادرة لذلك للقيام بمهمة إنشاء وتطوير الدولة القومية، ومن ثم فلابد من إعادتها الى سابق عهدها كملل ونحل لتغرق من جديد في حروبها الطائفية، وهذا ما جاءت تسعى إليه أميركا بإحتلالها للعراق بإعتباره قوة أساسية ومهمة في جغرافية المنطقة السياسية، واضعة لنفسها، فضلا عن النهب المنظم لموارده وإستنزاف مدخولاته في عملية تدوير للأموال تشهدها كل الدول المنتجة للنفط خاصة تلك التي تسير في فلك الغرب، ثلاثة أهداف ستكون لاحقا نموذجا لبقية الدول العربية يجري تطبيقه تدريجيا من دولة الى أخرى، وهو تفكيك الدولة وتفتيت المجتمع وتدمير الجيش. ولا يهم عند إنجاز هذه المهمة المحافظة على الشكليات القائمة، ولكن من دون مضمون، كاسم الدولة وحدودها وغير ذلك من علامات وجود الدولة مؤقتا الى حين يساعد إستكمال حلقات المخطط بإيجاد الأرض المناسبة لإعادة رسم خارطة الجغرافيا السياسية للمنطقة. وعلى هذا فأميركا لم تأت الى العراق كي تبني وتعمر بل لتخرب وتدمر، والمؤشرات واضحة جدا لمن يريد أن يتابع بعين فاحصة التطورات التي شهدها العراق منذ الإحتلال والى يومنا هذا ثم علاقة الوضع فيه بأوضاع المنطقة برمتها.

لقد كان مهما أن يتم تدمير وتعطيل ما تبقى من قطاعات إنتاجية بعد أن أنهكتها فترة الحصار الدولي المحكم وسياسات عسكرة القطاعات الإقتصادية وهدر موارد العراق في الحروب العبثية والإسراف في الترف والسياسات الإرتجالية. ويستطيع أي متتبع للوضع الإقتصادي في العراق أن يرى بوضوح كيف أنه لم يبذل أي جهد يذكر لإعادة تأهيل أي منشأة إنتاجية زراعية كانت أم صناعية، بل جرى تفكيك الكثير منها وإهمال الأكثر حتى تحولت أصوله الرأسمالية الى خردة، وأصاب القطاع الزراعي الإهمال والخراب، وتم إغراق السوق بمختلف السلع والمنتجات التي أحبطت قدرة المنتجات العراقية على المنافسة لتواجه تراجعا تراكميا وصل درجة التسليم أمام المنتج الأجنبي المستورد، بينما لم يصب البنية التحتية التي تعاني خرابا مزمنا أي نصيب من الجهد والبناء والتطوير، وتعرض ما هو موجود منها للخراب والتهالك حتى أصبح العراق عمليا من البلدان المتخلفة جدا.

ولا يخفى اليوم بأن الإقتصاد العراقي يقوم على رافدين هما الريع، الذي يشكل الوسيلة الوحيدة تقريبا لإدامة الحياة وعلى السواء بالنسبة للسلطة ومؤسساتها والمواطنين، والرشوة، التي يتسع دورها بإختلاف منازل المتنفذين في السلطة ودرجاتهم وما يقع تحت أيديهم من قرارات وسلطات وضمنا العمولات وتقاسم الحصص في الأسواق ومنافذ التهريب وغير ذلك من تفاصيل ومفردات الإقتصاد التحتي أو السري.

إن مسألة الطاقة الكهربائية، وهي المؤشر الأكبر لوضع العراق الخاص من حيث عجزه عن إنجاز خطوة ذات مدلول إيجابي في حل هذه المشكلة المستديمة، ومع أن عقدا من الزمن يمر فإن الحكومات التي أعقبت الإحتلال والموارد التي أهدرت في هذا المجال لم تستطع التقدم ولو قليلا على صعيد حل هذه المشكلة المستعصية. وقد يبدو السبب للوهلة الأولى متعلقا بالفساد والجوانب الفنية أو التمويل. وإذ يلعب العامل الأول دوره في تعويق أي تقدم في أي مجال من مجالات الإقتصاد الوطني؛ فإن العاملين الأخيرين لا يشكلان معوقا جديا أمام حل هذه المشكلة، ذلك أن المشكلة في جوهرها سياسية وليست فنية أو مالية. إن توفير الطاقة الكهربائية يعني التقدم والتطور في مختلف المجالات، وهو الأمر الممنوع في العراق وحتى إشعار آخر يسترد فيه العراق إرادته الوطنية حقيقة لا شكلا. وقد يقتضي الهدف هذا في جوهره تغيرات دولية وإقليمية وداخلية كبرى للأسف لا يتوافر في الأفق أي مؤشر لتحقيقها في المدى المنظور.

إن أميركا لم تخيب أمل من إرتجى أن تصنع بغزوها للعراق واحدا من الحلمين في إعادة بناء العراق، ولم تكتف بتدمير العراق، سواء بالحصار الذي سبق الإحتلال أو بالتخريب المنظم الذي تبعه، وإنما تمنع أي إمكانية تتيح للعراق إسترداد عافيته. وإدراك هذه الحقيقة الواضحة يتيح القدرة على تشخيص الوضع الكارثي الذي يعيشه العراق حقا، حيث تتآكل بنيته التحتية وتتحول ركائز إقتصاده الى ركام وتهدر موارده في الفساد والنهب المتواصل ويفاقم مشاكله وجود طبقة سياسية تفتقر الى الكفاءة والنزاهة ولا تمتلك الإرادة والقدرة على تجاوز القيود التي تضعها أميركا أمام العراق للخروج من وضعه الكارثي المتراكم.

ولعله مما يلفت الإنتباه أن عشرة أعوام مضت شهدت ما لا يعد ولا يحصى من مؤتمرات حشد الأنصار والموالين تحت مسميات مختلفة وبإستخدام موارد الدولة، ولكنها لم تعرف يوما مؤتمرا للمختصين للبحث في واقع العراق السياسي والإقتصادي ومشاكله وسبل الخروج من النفق الطويل الذي أدخل فيه بسياسات الإستبداد وما تلاها من إحتلال والوسائل المتاحة لتجاوز هذا الوضع كي يستطيع العراق اللحاق بأقرانه في المنطقة والعالم وتعويض ما فاته من فرص للتطور والإستقرار.

* كاتب وناشط سياسي

About this publication