Build and Demolish

<--

شاهد العالم بما تبقى له من بصر قبل أيام فلسطينياً يدمّر بالمعول بيته الذي بناه بالحجر المبتل بعرقه، كان ذلك بسبب سلطات الاحتلال التي خيرته بين أن يهدم البيت بنفسه أو يدفع أجرة هدمه للجرافة . وعلى الفور ذكرنا هذا المشهد بحادثة وقعت العام 1948 في إحدى قرى فلسطين عندما طلب الضابط الصهيوني من إحدى الأمهات أن تختار واحداً من أبنائها الثلاثة كي يطلق عليه الرصاص، وكان ذلك أنكى من القتل حتى لو شمل العائلة كلها، وليس هناك فارق كبير بين أن يهدم الإنسان بمعوله البيت الذي بناه، وبين أن يخلع بيديه زيتونة عجوزاً زرعها أجداده .

وانتهى المشهد بأن تحول البيت إلى أطلال، أما ردود الأفعال على هذا المشهد الدرامي فلم تتجاوز تصوير المشهد عبر الفضائيات وبعض التعليقات الخاطفة التي لا تبني ولا تهدم من تشريد، مقابل ما يقال عن الذي لا يغني أو يسمن من جوع، ورغم الثرثرة الكونية على مدار الساعة عن العدالة وحقوق الإنسان، فإن ذلك الرجل وأسرته ناموا في العراء تحت سماء مشبعة بالصقيع واللامبالاة .

ويبدو أن المرحلة المقبلة من التنكيل الساديّ الذي يمارسه الاحتلال، هي أن يؤمر الناس بأن يتولوا قتل أنفسهم وأبنائهم، ثم يقوموا بهدم منازلهم تماماً كما كان يطلب في الزمن المتوحش من ذوي المقتول أن يدفعوا ثمن الرصاصات التي استقرت في جسد أحد أبنائهم .

حدث هذا بتزامنٍ يمزج التراجيديا بالكوميديا خلال الاحتفال السنوي ل”إيباك” حين كان نائب الرئيس الأمريكي يعلن عن الانحياز والتعاطف مع الدولة العبرية التي تُكَافأ على كل ما تقترف من جرائم، لأنها الاستثناء الذهبي والابن الكولونيالي المدلل الذي يحق له ما لا يحق لسواه .

لكن ما يغيب عادة عن الأقوياء الذين يستمدون قوتهم الوهمية من ضعف الآخرين ومن الخلل في موازين القوى، هو أن حجارة البيت المهدّم لن ترحل، ولن تموت، فقد تتحول إلى سلاح بيد طفل، أو إلى كمين لمن قرر أن يتشبث بجمرة وطنه ويمكث هناك حتى لو كان هذا البقاء في العراء .

بالطبع تأتي هذه الجرائم ضمن مسلسل التجريف المزدوج، للتراب وللبشر أيضاً، وتزامن هذا المشهد مع موقف عنصري آخر هو تخصيص حافلات لنقل العمال العرب كي لا يختلطوا بالمستوطنين، وهذا بحد ذاته من تجليات الجدار العنصري الذي تحوّل إلى منظومة من الأفكار والمفاهيم التي تعيد الإنسان إلى ما قبل الحرية والحق والقانون . وغاب عن الذين اتخذوا هذا الموقف العنصري أن الانفجار الذي حدث في أمريكا ذات يوم لمصلحة السود، كان بسبب موقف امرأة سوداء رفضت أن تخلي مقعدها لرجل أبيض، لكنّ من يجهلون التاريخ هم أنفسهم الذين يجهلون المستقبل وكل ما يمكن أن يحدث فيه لغير مصلحتهم، وعلى غير ما يشتهون .

اليوم: اهدم بيتك بمعولك، وغداً اخلع شجرتك بيديك، وبعد غد اختر واحداً من أطفالك كي يساق إلى الموت، فتلك متوالية احتلالية لا يلوح لها في الأفق نهاية، أما السؤال فهو ببساطة، ماذا نحن فاعلون إزاء هذا كله؟ فالصمت تواطؤ والكلام يتلاشى في الهواء . . والفعل ممنوع .

أما المفارقة فهي ما قاله الجنرال باراك عن المستوطنات، فقد قال لصحيفة “الجيروزلم بوست”، إن خلع ذراعه من الكتف أسهل عليه من خلع مسمار واحد منها!

About this publication