واهم من يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستحمل هموم وتطلعات الشعب السوري إلى مؤتمر “جنيف 2”، ولا يمكن أن تكون معاناة المجتمع السوري ضمن اهتمامات أي إدارة أمريكية، أما إذا كان الحديث عن أولويات الولايات المتحدة في كل ما يدور في سوريا، فإن أهم وأرفع شأن في ذهن أي مسؤول أمريكي هو المصالح الوطنية الأمريكية التي يتقدم عليها ومن دون أي منازع موضوع الأمن القومي، خاصة بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وبروز القاعدة كمهدد للمصالح الأمريكية في الداخل والخارج .
وليس ذلك بمستغرب ولا مستهجن، بل هو حق المواطن الامريكي على قيادته و إدارته، لهذا فإنه من الخيانة ألا تهتم الإدارة الامريكية بموضوع هو أولوية قصوى في جدول أولوياتها، ذلك الموضوع الذي سخرت لحمايته الإدارات المختلفة كل قواها وأخرجت له من القوانين ما تنتهك به حقوق الإنسان بما في ذلك الإنسان الأمريكي، في مجتمع طالما تباهى بقدسية تشريعات حقوق الإنسان فيه . وليس ذلك بغريب، فالأمريكي ينافس الفرنسي في أسبقية نشوء تشريعات حقوق الإنسان في مجتمعه . وعلى الرغم من ذلك، فإن كلا المجتمعين يتنكر لكل قيم حقوق الإنسان عند أول هزة أمنية تصيبه، فقد تنكر الأمريكان الأنجلو- ساكسون – لكل قيمهم الإنسانية بعد بيرل هاربر، وأعادوا الكرة بعد الحادي عشر من سبتمبر وأخرجوا للعالم قانونهم المشين المسمى “باتريوت آكت”، مثلما تنكر الفرنسيون لقانون حقوق الإنسان والمواطن بعد أسابيع من صدوره عام 1776 .
تتمدد ذراع الأمن القومي الأمريكي وتنكمش خارج أمريكا في أحيان كثيرة، إلا أن ذراعه ممتدة وثابتة على الدوام إلى حليف خاص في كيان صنعته “الشرعية الدولية” عام 1948 وأسمته “إسرائيل”، كيان مصطنع يشبه في تكوينه العضوي الإخطبوط متعدد الأذرع التي تطال كل أرجاء المعمورة، وتضرب بعصا الحليف الأكبر وتحت سيطرته، ولهذا، فالأمن القومي الصهيوني مكون أساس من مكونات الأمن القومي الأمريكي، وهذا ما تصرح به كل القيادات الأمريكية على اختلاف مشاربها وأحزابها، ومنذ تأسيس الكيان الصهيوني . هذان الأمنان ينطلقان من نظرية واقعية جداً، تقوم على فكر ميكيافللي، حيث الغاية تبرر الوسيلة، وحيث تنهار القيم والأخلاق وتهدم، ويتبدد القانون الدولي وتنكمش وتتقزم كل المنظمات الدولية أو تسخر من أجل تحقيق هدف أسمى وهو حماية الأمن القومي المشترك لكل من أمريكا والكيان الصهيوني .
وبناء على هذه الحقيقة ووفق معطياتها يدار الصراع في سوريا، وبناء عليها يرسم الخط الأحمر شديد الاحمرار، أما ما يعلن من خطوط حمر بخصوص نوع السلاح – كيماوي أو غيره – أو مسميات بعض المجموعات أو مدى أهمية التحالفات فإنها خطوط واهية إن لم تكن تخدم الأمن القومي الصهيوني، وهي قابلة للتغير والتبدل، فعدو اليوم قد يصير صديقاً وحليفاً إذا ما خدم هذا الأمن، وعلى العكس من ذلك ؛ فالصديق والحليف إن لم يكن خادماً للأمن القومي الصهيوأمريكي فإنه سيكون عدواً، وربما تجند ضده كل القوى ويصنف ضمن الأعداء الارهابيين .
وفق هذا المفهوم، وضمن إطار لعبة تحقيق أكبر قدر من المصالح يلعب الروس لعبتهم بدهاء ضابط الاستخبارات المحنك الرئيس بوتين ويعاونه طاقم دبلوماسي لا يقل عنه حنكة ودراية برئاسة وزير الخارجية المخضرم سيرغي لافروف، مستفيدين من تناقضات المواقف العربية، وعدم توحد صفوف المعارضة السورية، وتقاطع المصالح الروسية المطردة مع حليف جديد -إيران- هو بأمس الحاجة لقوة عظمى تسانده وتدعم مشروعه النووي وانتشاره خارج حدود إقليمه، الأمر الذي يُعَدُ كَسباً روسياً عظيماَ، يُجسدُ رؤى “لينين” القديمة، في تقاسم النفوذ في البحر الابيض المتوسط مع القوى الغربية والحلف الأطلسي، والتمركز بقوة في شمال سوريا، والوصول عن طريق هذا الحليف الجديد إلى بحر العرب والخليج العربي، خاصة بعد أن تشرذم حلف وارسو ونُصبت صواريخ الحلف الأطلسي وراداراته على مشارف الحدود الروسية في كل من بولندا وتركيا ورومانيا وأوكرانيا .
وبناء على ذلك فإن التاريخ يعيد نفسه والمصالح العربية التي وُعِدَ العرب بتحققها قبل سايكس بيكو، تتجدد الآن بصور مختلفة، يسوقها الأمريكي والروسي على حد سواء، و”جنيف 2” قادمة وفي طياتها من الأسرار والوعود ما لم يعلن عنه حتى الآن . إلا أنه ومن دون أدنى شك ستدير حوار هذا المؤتمر قوتان عظميان لا تعترفان بالمصالح العربية، حيث يشكل الأمن القومي الصهيوني أولوية بالنسبة لهما، لهذا، فإن الحوار مثل الصراع لا يعني شيئاً للمواطن العربي إذا لم يعرف العرب والسوريون على وجه التحديد مصالحهم ويدافعوا عنها، أما الاعتماد على مواقف ووعود كل من أمريكا وروسيا فإنه لن يحقق أدنى مصلحة للشعب السوري، والرهان على أي من القوتين لن يفيد العرب في مستقبلهم، ذلك أن الغرب قد خذل أسلافهم من قبل، ولم ينلهم إلا الرماد .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.