أوباما رئيس هاوٍ وغير كفء
د. عبد الله المدني
حينما كنا طلابا في مرحلة الدراسات العليا في جامعة بوسطون، كان ضمن ما تعلمناه، أن لكل رئيس أمريكي معاصر عقيدة سياسية يؤطر فيها سياساته الخارجية، جاعلا منها خريطة طريق لإدارته.
وهكذا علمونا ”عقيدة ترومان” التي تأثرت بتداعيات ونتائج الحرب الكونية الثانية وظهور الثنائية القطبية، فجاءت تقول بضرورة تقديم الدعمين المادي والعسكري للدول والحركات التي تقاوم انتشار المد الشيوعي في جنوب أوروبا وشرق المتوسط، خصوصا تركيا واليونان. وعلمونا ”عقيدة أيزنهاور” التي اشتملت على ملء الفراغ الناجم عن هزيمة بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر في 1956 مع العمل على تقليص نفوذ الرئيس عبد الناصر الذي كانت زعامته الطاغية تهدد المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط ودول الخليج بفعل ما كانت الناصرية تبثه من دعايات ضد ما اصطلح على تسميته بـ ”الأنظمة الرجعية” العربية.
ثم علمونا ”عقيدة كيندي” التي كانت ترجمة حديثة لمبادئ الرئيس الأمريكي الأسبق مونرو حول حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية ومقاومة الأنظمة الديكتاتورية. ولأن كيندي جاء في فترة انفجرت فيها أزمة ”خليج الخنازير” فإنه ضمّن عقيدته دعم الأنظمة التي تتعهد بإجراء انتخابات ديمقراطية في الحديقة الخلفية لبلده (أمريكا اللاتينية)، وذلك تفاديا لتسرب النفوذ الشيوعي واليساري إليها. ووصفت جماعات حقوق الإنسان والدمقرطة وقتذاك ”عقيدة كيندي” بأنها انقلاب ثوري في التوجهات الخارجية لواشنطن، لأن الأخيرة كانت قبل ذلك تدافع عن الحكومات اللاتينية التي تصل إلى السلطة في بلدانها على ظهر الدبابات.
وباغتيال كيندي ومجيء ليندون جونسون أسدل الأخير الستار على عقيدة سلفه واستبدلها بـ ”عقيدة جونسون” التي قالت بضرورة دعم واشنطن لأي حكومة لاتينية، بغض النظر عن شكلها وطريقة وصولها إلى السلطة، طالما أنها تحمي مصالح الولايات المتحدة في ذلك الجزء من العالم. وحينما دخل ريتشارد نيكسون البيت الأبيض، وكانت الحرب الفيتنامية في ذروتها، ظهرت ”عقيدة نيكسون” التي صاغها المستشار الأشهر لشؤون الأمن القومي ووزير الخارجية لاحقا هنري كيسنجر، وجاء فيها تعهد واشنطن بالدفاع عن حلفائها في جنوب شرق آسيا وفق المعاهدات المبرمة، بما في ذلك نشر المظلة النووية الأمريكية إذا ما تعرضت الدول الحليفة لتهديد نووي خارجي.
أما جيرالد فورد الذي قاد الولايات المتحدة لفترة انتقالية على أثر استقالة نيكسون المدوية بسبب فضيحة ”ووترغيت” المعروفة فلم يتح له الوقت لتشكيل عقيدته السياسية الخاصة، إنما سار على ”عقيدة نيكسون” مع تحلله من الكثير من التزامات سلفه بعدما خرجت بلاده مهزومة من الحرب الفيتنامية وتحسنت علاقاتها مع صين ”ماو تسي تونغ”. ثم جاء الرئيس الضعيف جيمي كارتر في وقت كان فيه أهم الأنظمة الحليفة لواشنطن في الشرق الأوسط، أي نظام الشاه في إيران يواجه أسوأ تحد داخلي له منذ انقلاب محمد مصدق في الخمسينيات. فكان أن صاغ كارتر عقيدة تقوم على المبادئ الأخلاقية في عالم السياسة الذي لا يعترف بالأخلاقيات. ورغم أن الرجل أطلق تحذيرات بأن بلاده ستدافع وتقف مع حلفائها الاستراتيجيين لمواجهة ما يعترضهم من تحديات داخلية وخارجية، فإنه سرعان ما ثبت أن تلك التعهدات لم تكن سوى فقاعات صابون، وذلك حينما تخلى عن نظام الشاه وسمح بقيام نظام ثيوقراطي على أنقاضه، وهو النظام الذي ما برح العالم أجمع يشتكي منذ 1979 من مؤامراته وممارساته العبثية وعدم انصياعه للنواميس الدولية.
ثم جاءت ”عقيدة بوش” الأب على وقع الغزو العراقي للكويت في صيف 1990، وانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية بالتزامن تقريبا فاشتملت على لغة حاسمة وقوية بضرورة الدفاع عن الدول الحليفة في الخليج بالقوة العسكرية، وذلك في مشهد معاكس لعقائد أسلافه من الرؤساء الأمريكيين الديمقراطيين. وقرن بوش الأب القول بالفعل حينما نجح في تشكيل تحالف دولي واسع لإخراج القوات العراقية الغازية من الكويت ومنع تمددها نحو دول الخليج العربية بالقوة. أما بيل كلينتون الذي خلف جورج بوش الأب فقد كان متأثرا بنجومية وشعبية جون كيندي من جهة، ومستاء من جهة أخرى من أوصاف الضعف والتخاذل التي ألصقت بالرئيس كارتر المنتمي إلى حزبه نفسه، فحاول أن يصيغ عقيدته بطريقة تجمع ما بين النقيضين. حيث استعار فيها شعارات كارتر حول حقوق الإنسان والدمقرطة والحكم الرشيد، وتجنب اللين والتخاذل بإرسال طائراته لقصف عراق صدام حسين والتدخل العسكري في حرب البوسنة والهرسك.
وهكذا نجد أن عقائد الزعماء الأمريكيين تأثرت كثيرا بالأوضاع السياسية المعاصرة لهم – وهذا لا غبار عليه – لكنها من ناحية أخرى وقعت في تناقضات، ولم تشتمل على مبادئ راسخة. حيث رأينا كيف تنصل بعضهم بسهولة مما أرساه سلفه.
أما سؤالنا المحوري فهو: هل للرئيس ”باراك أوباما” عقيدة سياسية؟ وإذا كان الجواب بنعم فما مضامينها؟
يبدو الرئيس الأمريكي الأول من ذوي الأصول الإفريقية حائرا لا يدري ما يريد. فهو متردد وسياساته متقلبة بحيث صار مصدرا للتندر. ولعل أقوى دليل أن إدارته غيرت موقفها من أحداث مصر أربع مرات في غضون أسبوع، وفعل الشيء ذاته حيال الثورة السورية. فتارة يقول إن كل الخيارات متاحة ومطروحة، ويكرر المقولة نفسها حيال الملف النووي الإيراني وعبث قادة بيونغيانغ. وتارة أخرى يقول إنه سيزود الثوار السوريين بالسلاح ليتراجع بعد قليل ويبدي تخوفه من وقوعه في أيدي الجماعات الجهادية. وتارة ثالثة يشترط توريد السلاح للمقاتلين بما ستتمخض عنه مفاوضات جنيف 2، وتارة رابعة يؤكد استخدام دمشق السلاح الكيماوي ضد معارضيه ليتراجع بعد سويعات ليقول: ”إننا في حاجة إلى دليل دامغ”. حتى بعدما حزم أمره أخيرا وأعلن أن بلاده ستزود المقاتلين السوريين بالسلاح فإنه استدرك ليعلن أنه لن يزودهم بصواريخ أرض – جو!
هذه الحيرة وهذا التخبط واللا حسم الذي لا يليق بزعيم القوة العظمى الوحيدة في العالم دفع شخصية مقربة منه ومن أعمدة حزبه الكبار وهو بيل كلينتون إلى القول علنا: إن ”أوباما رئيس هاوٍ وغير كفء” مضيفا أنه لم يسانده إلا لأنه وعد زوجته هيلاري بحقيبة الخارجية.
وجملة القول: إن الولايات المتحدة لم تشهد في تاريخها رئيسا متخبطا ومترددا مثل أوباما، إذا ما استثنينا جيمي كارتر. ويمكننا من وحي ما صدر عنه وعن أركان إدارته أن نقول، إن ”عقيدة أوباما” حينما تدرس للأجيال قادمة ستشتمل على:
– التردد والتخبط حيال القضايا الدولية والإقليمية.
– التدخل في شؤون الدول العربية الحليفة بقصد إسقاط أنظمتها وتقسيمها إلى كانتونات طائفية وعرقية عبر تدريب وتأهيل الجماعات والمنظمات الفوضوية العاملة تحت شعارات حقوق الإنسان والدمقرطة.
– التخلي عن الأنظمة الشرعية الحليفة والمراهنة على الجماعات المعادية لها كحركة الإخوان المسلمين مثلا.
– تحويل البوصلة الأمريكية من الخليج والشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى والباسفيكي لمحاصرة العملاق الصيني.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.