كلما تفاقم العنف في المنطقة العربية، تشتد الانتقادات الموجهة إلى سياسة دول الأطلسي . وتتمحور هذه الانتقادات بصورة خاصة حول سياسة الولايات المتحدة، باعتبارها اللاعب الأكبر في هذا الجزء من العالم، وحول سياسة واشنطن تجاه مصر، لما تمثله من ثقل عربي ودولي . تبدو سياسة واشنطن هنا كأنها محاولات صعبة للسير على محورين: من جهة مراعاة الشرعية الانتخابية التي مثلها نظام الرئيس المصري المعزول، ومن جهة أخرى مراعاة الواقع السياسي الجديد الذي هو حصيلة انتفاضة شعبية وتدخل عسكري ضد حكم الإخوان . لقد أخذت واشنطن في الحسبان المحور الأول عندما أعلنت تعليق مساعداتها العسكرية بعد التغيير . وأخذت واشنطن في الحسبان الواقع المصري الجديد، عندما رفضت وصف التدخل العسكري في حكومة مرسي بالانقلاب، وكررت انتقاداتها السابقة لمرسي .
لقد وجد معلقون وكتاب ينتمون إلى تيارات سياسية مختلفة في هذه السياسة نوعاً من القصور السياسي غير المقبول . انتقد مارك ماردل، محرر شؤون أمريكا الشمالية في إذاعة وتلفزيون “بي .بي .سي” البريطانية ما وجده فصلاً جديداً من رواية قديمة: حماس شديد في الغرب للديمقراطية، ولكن مع خوف من حكام يحملون أفكاراً لا يحبها الغرب مثل الشيوعية سابقاً والإسلام اليوم . حذر ماردل حكام الغرب من هذا الموقف الذي يقود إلى الشلل ولا يخدم الديمقراطية (30-07-2013) . وعبرت مجلة “الايكونوميست” الدولية عن الموقف نفسه تقريباً، عندما دعت دول الغرب إلى التوقف عن تقديم دعم عسكري أو مادي إلى الحكومة المصرية، وكذلك إلى حث الدول الأخرى على اتخاذ مواقف مشابهة حتى تؤكد القوات المسلحة المصرية عزمها على وقف استخدام العنف مع المعارضين وعلى الالتزام بالمسار الديمقراطي( 17-08-2013) .
تعبّر هذه التعليقات، بصورة عامة، عن اهتمام بتصدير الديمقراطية وبالمطالبة باعتبار موقف النخب الحاكمة في الدول العربية، معياراً أساسياً تستند إليه دول الأطلسي في تحديد سياستها تجاه هذه الدول . ولعل المقصود هنا اتباع سياسة تشبه في جوهرها تلك التي اتبعتها السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي في توسيع السوق، وفي اشتراط انتقال الدول الأوروبية إلى النظم الديمقراطية لقبول عضويتها في السوق . وحتى لا تتسم شروط الانتقال بالعمومية وبالغموض، وحتى لا تختبئ الدول الراغبة في الانضمام إلى السوق/الاتحاد وراء هذا الغموض، بحيث تتهرب من موجبات الالتزام بالنظام الديمقراطي، فقد وضع الاتحاد لائحة مفصلة دعيت بمعاير كوبنهاغن، تضمنت الشروط والإجراءات التي ينبغي على الدولة المرشحة للعضوية أن تطبقها حتى تستحق العضوية، فكانت هذه المعايير اداة فعالة في نشر الديمقراطية خارج دول الاتحاد .
بالطبع هذا الوضع لا ينسحب على الدول العربية لأنها غير مرشحة أساساً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي . ولكن بإمكان دول الأطلسي استخدام الرافعة الاقتصادية مثل اتفاقيات الشراكة بينها وبين الدول العربية من أجل اقناع النخب الحاكمة فيها بالسير على طريق التحول الديمقراطي . المشكلة هنا، خاصة مع الولايات المتحدة، أن المعايير التي ستطبق عندنا لن تكون مثل المعايير التي طبقت هناك . ففي أوروبا كان التركيز على التحول الديمقراطي . أما إذا شاء الأطلسي صياغة معايير للدول العربية الراغبة في دخول شراكة مع دوله، فإن التركيز فيها لن يكون على الدمقرطة وحدها، بل سوف يتضمن اشتراطات أخرى . هذه الشروط تبرز في كل منعطف من منعطفات العلاقات الأطلسية-العربية، وفي المواقف التي تتخذها الادارة أو قيادات مستقلة أو جماعات ضغط أمريكية .
من بين هذه الجماعات، اتخذ مؤيدو “إسرائيل” من هذه المناسبة فرصة لإعلان فشل الآخرين، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي، في فهم ما يجري في المنطقة العربية . فضلاً عن ذلك فإنها فرصة مناسبة، لترسيخ الاقتناع في اذهان الأمريكيين، بأن المتعاطفين مع “إسرائيل” هم وحدهم الذين يفهمون العرب ويعرفون عقليتهم . في هذا السياق، كتب إريك تاغر، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في صحيفة “وول ستريت جورنال” أن أوباما شغل نفسه بالظلال الفكرية والمبدئية للصراع في مصر، فتوصل إلى ضرورة مراعاة البعد العقائدي له . أما تاغر، وهو من المتخصصين بالمنطقة بحكم حوافز عقدية معلومة، فجعل الصراع مجرد تنافس بدائي على السلطة بين العسكر والإخوان . استطراداً دعا تاغر أوباما إلى النظر إلى هذا الصراع من زاوية “مصالح الولايات المتحدة” فقط لا غير . ولكن ما هذه المصالح؟ يؤكد جوناثان توبن، في مجلة “كومنتري”، وهي من أهم الدوريات المتعاطفة مع “إسرائيل” في الولايات المتحدة، أنها دعم “إسرائيل” منتقداً في الوقت نفسه أوباما لأنه يتناسى أولوية هذا الهدف في سياسة واشنطن الشرق أوسطية (18-8-2013) .
الحقيقة أن ما من رئيس أمريكي له موقف مغاير تجاه هذه المسألة بمن فيهم أوباما . بل إن الحقيقة هي أنه حتى ما من حاكم عربي إلا ويعرف مدى حرص الإدارات الأمريكية على استرضاء “إسرائيل” . المسألة ليست هنا . المسألة هي: ما الثمن الذي ينبغي أن تدفعه الإدارات الأمريكية حتى تحظى بالرضى “الإسرائيلي”؟ إن هذا الثمن يرتفع باستمرار ويتزايد مع كل تنازل يقدمه العرب أو تفرضه عليهم الإدارات الأمريكية بطلب من “إسرائيل” . هذه التنازلات لا تذهب بحقوق الفلسطينيين فحسب، وإنما بكرامتهم أيضاً، حيث يحرص “الإسرائيليون” على إخراجها بأسلوب مهين للفلسطينيين وللعرب وللأمريكيين أنفسهم، كما فعلوا عندما أعلنوا عن بناء المزيد من المستوطنات بعد أن تخلى الفلسطينيون عن ربط العودة إلى المفاوضات بإيقاف الاستيطان .
بموازاة ما يفعله “الإسرائيليون” بالعرب، فإنهم يضغطون على الولايات المتحدة حتى تستمر في خلط الأوراق، وعلى الربط بين موقفها من التحول الديمقراطي في المنطقة العربية، من جهة، والموقف من “إسرائيل”، من جهة أخرى . بتعبير آخر . إذا أرادت الولايات المتحدة وإذا أرادت الدول الأطلسية أن تضع “معايير كوبنهاغن” للمنطقة العربية، فلن يكون الهدف منها ضمان نشر الديمقراطية في المنطقة والالتزام بقيمها ومبادئها، بل سيكون الهدف منها مزدوجاً: نشر الديمقراطية وفتح الباب أمام التوسعية “الإسرائيلية” معا . فبحسب هذه المعايير، نشر الديمقراطية في مصر مهم، ولكن الأهم منه هو الحفاظ على “كامب دافيد” . بين هذين الهدفين ليس هناك أي تكامل ولا تجانس بل بالعكس تناقض وتضاد . وما يكسبه الأطلسيون بين العرب من تعاطف وتعاون عندما يساعدون على نشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادهم، سوف يتحول إلى نقمة عندما يجدونهم يضعون دعم “إسرائيل” وتقديم العون -الموضوعي- لها على نحو يمكنها من الاستيلاء على الأراضي والحقوق العربية . هكذا تستمر حواجز العداء بين الأطلسيين والعرب، فيرتاح “الإسرائيليون” ويتمكنون من قضم المنطقة العربية يوماً بعد يوم .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.