في عام 1994, تعرض العراق الى حظر جوي في الشمال وحصار دولي وحملات تفتيش على اسلحة الدمار الشامل قصد بها اذلال العراق واضطر الرئيس كلينتون الذي بقي طويلاً متردداً في توجيه ضربة عسكرية للعراق, الا أنه تعرض الى حملة وصفت ادارته بالليونة والضعف والتردد, فاختار أن يوجه ضربات صاروخية متوالية بصواريخ توماهوك لعدد من المنشآت العراقية الحيوية.
ليلة حدوث اول ضربة صاروخية على بغداد كنت اقيم حفل عشاء في منزل السفير الاردني في بغداد وكنت سفيراً لدى العراق انذاك, حضره نخبة كبيرة من الوزراء والمسؤولين العراقيين منهم طارق عزيز والصحاف وطه ياسين رمضان ومحمد الراوي وزير التجارة وعامر رشيد وزير التصنيع العسكري وغيرهم.
وفوجئت بوزيرالتصنيع العسكري يطلب مني أن يكون العشاء مبكراً قبل الساعة التاسعة لأن الاميركان سيوجهون ضربة في التاسعة مساء لمجمع التصنيع العسكري في ضواحي بغداد وللمنشآت الحيوية في العراق, وفي التاسعة تمت الضربة لمجمع التصنيع العسكري أحد اهم المرافق الصناعية والعسكرية في العراق وتوالت الضربات بشكل متقطع فطالت فندق الرشيد والمخابرات العامة وعشرات المواقع الحيوية عسكرية ومدنية.
لكن هذه الضربات لم تغيّر من ارادة النظام العراقي ولا وضعه على الارض ولا موقفه انذاك.
والضربة المحدودة التي ستوجه لسوريا تبدو وكأنها مسخرة لرد الاعتبار للموقف الاميركي بعد ما لحقه من تردد وضعف في حسم الامور في سوريا وبعد أن خيّل لقوى عديدة دولية انها قادرة على ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة في العالم, وبعد أن علقت الولايات المتحدة تدخلها في النزاع السوري على خط احمر هو استخدام الاسلحة الكيماوية, الامر الذي لم يمنع النظام السوري من تحدي الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بعد أن تبين أن الولايات المتحدة لم تساعد الثوار في سوريا بالقدر الكافي ولم تردع النظام السوري بالقدر المطلوب.
لن تغير ضربة صاروخية او جوية محدودة موازين القوى في سوريا لان الادارة الاميركية باعلانها المبكر والصريح عن الضربة المحدودة، اعطت النظام السوري الوقت الكافي لاعادة انتشار قواته البرية واتخاذ جميع الاحتياطات التي تضمن سلامة قواته المتحركة على الارض.
صواريخ توماهوك توجه عادة الى اهداف ثابتة كالمنشآت والمطارات وقواعد الصواريخ المضادة للجو واثر هذه الضربات على القوات البرية سيكون محدودا.
اما مراكز القيادة والسيطرة العسكرية ورئاسة الاركان ومراكز الاستخبارات فالجيوش عادة لها مراكز قيادات وعمليات بديلة ويمكن تفريغ هذه المواقع بسهولة.
المطارات ومنظومة الدفاع الجوي قد تتلقى ضربات قوية اما الطائرات فيمكن نقلها الى مطارات قريبة داخل الحدود العراقية.
اما مراكز ومخابئ الاسلحة الكيماوية وعددها اثنا عشر موقعا فمعظمها موجودة في العمق السوري، وهناك احتمال السيطرة على مركز للاسلحة الكيماوية على الحدود الاردنية، وآخر على الحدود التركية من خلال قوات اميركية خاصة، موجودة لهذه الغاية في المنطقة، اما بقية المراكز فقد يصعب ضربها او السيطرة عليها لأن تدميرها كارثي على الشعب السوري ودول الجوار.
اذن هي ضربة محدودة، لن تؤدي الى اسقاط النظام او شل قدرته العسكرية بالكامل، وفي احسن الاحوال قد تردعه وتردع غيره من استخدام الاسلحة الكيماوية.
لا يغير موازين القوى في سوريا، الا ضربة عسكرية متواصلة، تشكل ضغطاً عسكرياً مستمراً على قوات الأسد، يرافقها دعم عسكري جيد ومؤثر لقوى الثورة المعتدلة، عندها قد يهرول النظام السوري لقبول الحل السياسي والمفاوضات, وللأسف فإن عدم وجود قيادة موحدة ومقنعة في صفوف المعارضة يجعل الحديث عن عدم وجود بديل لنظام الأسد، جدياً في الساحة الدولية.
ما زال امام الرئيس الاميركي خوض معركة سياسية في الكونغرس، لتحييد القوى السياسية المعارضة التي تترصد له ولحزبه، لتستخدم اخطاء الادارة الاميركية ضد الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة.
فكما ان حضور الولايات المتحدة يكون احياناً مربكاً ومدمراً وجالباً للفوضى كما حدث في حرب العراق، فغياب دورها يمكن ان يكون مربكاً، وقد يطيل الصراعات والكوارث في الساحة الدولية.
فحضور الولايات المتحدة في عملية السلام في الشرق الاوسط غيّر موازين القوى وكان دائماً يرجح كفة اسرائيل المحتلة ومصالحها وأمنها، لكن غياب الدور الاميركي في السلام او فتوره كان ايضاً يطلق يد اسرائيل في استيطان وقضم ما تبقى من ارض فلسطين.
فهي الداء حيناً، وهي الدواء احياناً وبخاصة في عالمنا العربي، الضعيف والمنقسم على نفسه، الغارق في تلافيف نزاعات دينية وتاريخية، عفى عليها الزمن، يستخدمها اعداؤه والمتسللون الى صفوفه سلاحاً لاعاقة نهوضه وتقدمه، وللحيلولة دون توحيد صفوفه.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.