لإعلام، هو هذه الآلة التي بدأت تنويرية وانتهت في معظم الحالات تدميرية؛ تأكل الكلام على مدار الساعة ولا تعرف التوقف، ولا ترغب في إعادة النظر وإطالته في قراءة النتائج الخطرة التي ترتكبها في حق الأرض والبشر، والقائمون عليها يعتقدون أو بالأصح يتوهمون أنها تقوم بخدمة لا يستغني عنها إنسان اليوم لمعرفة ما يدور حوله وما يتربص به من مشكلات راهنة ومستقبلية .
صحيح أن هناك أغلبية على وجه هذه الأرض لا تتابع ما تنتجه الآلة الإعلامية العالمية والغربية منها خاصة، ولا تهتم بما تقوله تلك الآلة أو تكتبه أو تصوره، وهذه الأغلبية سعيدة بموقفها تجاه أكبر مهيجات العصر وأكثرها إثارة للمتاعب والأحزان، لكنها أغلبية غير فاعلة في رفضها السلبي، وليس في مقدورها أن تثبت للأقلية المتابعة والمشدودة إلى الشاشات والإذاعات وبقية وسائل التوصيل الإعلامية ما تشعر به من سعادة روحية ونفسية لابتعادها عن متابعة الضرب اللحظي على الوجدان البشري والخضوع الإجباري لغسيل الأدمغة وتنويم الضمائر . واللافت في الأمر هو الدور التخريبي الذي يلعبه الإعلام الغربي المنحاز لأسطورة التفوق والاستعلاء، يضاف إلى ذلك الدور الصهيوني العنصري المضلل الذي بات يهيمن على هذا الإعلام ويوجه مساره، ويخفي كثيراً من المعلومات التي تحتاج إليها الشعوب .
وإذا كنا قد عشنا فترة من السذاجة الشديدة توهمنا خلالها أن الإعلام الغربي هو النموذج الذي نطمح إلى أن نتمثله في حياتنا العربية وأن يكون لنا شيء من الحرية التي يزهو بها ذلك الإعلام ويتباهى، فإننا عندما انكشفت لنا الحقائق وانحسرت غشاوة السذاجة بدأنا ندرك كم أن الإعلام الغربي أسير مصالح أنظمته وأسير مصالح ذاتية للقائمين عليه، وأنه لا يتحرّى الحقيقة في ما يقدمه من آراء وتغطيات، وهو بذلك يثبت أنه ليس حراً ولا ديمقراطياً . وأن الحرية في هذا العالم من أقصاه إلى أقصاه لاتزال نسبية، إن لم تكن معدومة . وأن الإعلام الحر في العالم الغربي لايزال خالياً حتى من الاستثناءات النادرة التي تظهر أحياناً في مكان ما ثم تختفي . وفي بريطانيا -على سبيل المثال- حيث كان يقال إنها النموذج الأكمل للديمقراطية المعاصرة نرى صحافة حزبية تضيق كل الضيق بالأفكار المخالفة وتؤكد غياب الحس الديمقراطي المدني .
وفيها، أي بريطانيا نشأت تحت مسمى الحرية صحافة سوداء مخجلة لمن يصدرها ويكتب فيها ولمن يقرأها أيضاً، وهي تستخدم من الألفاظ والعبارات النابية المبتذلة ما لا يقال مثله في أعماق المجتمعات المنحطة . ذلك جانب من صورة الإعلام في بلد “الديمقراطية الأولى”، والأمر لا يكاد يختلف كثيراً في الولايات المتحدة، حيث تقام أسواق للمساومة على شراء أوسع الصحف انتشاراً وأعرقها تاريخاً، وفي هذه الأسواق ينتشر سماسرة يعملون لدى بعض الدول التي تسعى إلى تنقية سيرتها وتنظيف ما علق بقادتها من أدران سياسية واقتصادية عن طريق نشر المقالات والتحقيقات المدفوعة الأجر في الصحف المشهورة التي توصف عادة بأنها من الصحف الجريئة والقادرة على فضح كل ما يتم في دول الغرب في الخفاء من مؤامرات للاستيلاء على المال العام أو المساس بالأمن القومي للبلاد .
وما صار في حكم المؤكد أن الأخطبوط الصهيوني المتنفذ في كل من أمريكا وبريطانيا قد استولى على أهم المنابر الإعلامية في هذين البلدين ويتاجر بمستقبلهما، ويستخدم جيشاً من الإعلاميين الفاسدين المؤهلين لطمس الحقائق، وتهييج القرّاء وابتزاز الحكومات المتعاقبة وتهديد الأثرياء والشركات، وتحويل الوسائل الإعلامية إلى تجارة مزدهرة على حساب قضايا الشعوب وامتهان القيم الأخلاقية والإنسانية . ولم يعد هناك أدنى شك في أن تشويه صور القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين العادلة لدى الرأي العام الغربي يعود إلى هيمنة هذا الأخطبوط الإعلامي الصهيوني ونفوذه الطاغي على الإعلام الغربي وتحكمه المادي والمعنوي في أهم وسائله . وإذا كان الوعي الفردي بخطورة هذه الهيمنة قد بدأ يغير من بعض مواقفه إلا أن الوعي الجمعي لايزال أسير هذا الأخطبوط وما ينشره من أكاذيب وما يمارسه من تزييف لحقائق الواقع والتاريخ .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.