فرحت أميركا كثيرا بانهيار الاتحاد السوفياتي مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ولم تخفِ بهجتها في الاندفاع ببرنامج عولمة هادف إلى التأثير فكريا وثقافيا في الحضارات العالمية والدول على اختلاف أشكالها.
رأت الولايات المتحدة أن الفرصة قد باتت مواتية لها، والطريق ممهد أمامها لكي تستأثر بالوضع العالمي، وتجعل من فكرها الرأسمالي والسياسي وثقافتها السياسية والاجتماعية محورا أساسيا يطغى على العالم، ويزحف على الثقافات الأخرى.
“
لم يكن من المتوقع أن تقدر الولايات المتحدة على أمركة العالم، لأن التاريخ في حالة تغير مستمر، ولا يبقى واقع على ما هو عليه، ولا يمكن لقوي أن يبقى ممسكا بسيادة القوة، ولا للضعيف أن يبقى تحت العصا
“
وقد حققت نجاحا كبيرا في عدد من المواقع على المستوى العالمي، وأخذت شعوب كثيرة -خاصة في الوطن العربي- تقلد الأميركي في أشياء مظهرية متعددة مثل الأطعمة والألبسة، وبدأت الحضارة الأميركية تطغى تدريجيا على حضارات عدد من الأمم.
لم يكن من المتوقع أن تقدر الولايات المتحدة على أمركة العالم، لأن التاريخ في حالة تغير مستمر، ولا يبقى واقع على ما هو عليه، ولا يمكن لقوي أن يبقى ممسكا بسيادة القوة، ولا للضعيف أن يبقى تحت العصا.
يشهد العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تحولات في السياسة الخارجية الأميركية تنم عن حلقة أو منحنى من التراجعات القادمة في السياسة الخارجية الأميركية.
أي أن أميركا -التي رأت في نفسها سيدة العالم في القرن الماضي- لن تبقى كذلك، وسيادتها ستشهد تراجعا إبان هذا العقد بحيث يغيب احتكارها للقوة إلى حد ما لصالح قوى أخرى تتبلور في العالم.
أخطاء أميركية
ارتكبت أميركا عددا من الأخطاء الجوهرية في سعيها لعولمة العالم على طريقتها الخاصة، أذكر منها:
1- ركزت أميركا تفكيرها أساسا على عضلاتها في محاولاتها لتكون الآمر الناهي على المستوى العالمي، ولم تفكر بعقلها لتميز بين الخبيث والطيب، لقد فتنت بقوتها فظنت أن القوة دائما هي المفتاح للسيطرة والهيمنة والتطويع، ولهذا اندفعت بقوة إلى حروب جديدة، وخاضت حربين ضد العراق وأفغانستان.
ربما رأت أميركا أنها قادرة على إقناع العالم بقدراتها العسكرية من خلال غزوها العراق على اعتبار أنه كان دولة قوية ذات جيش كبير، لكنها لم تهنأ بسيطرتها عليه، وبقيت المقاومة مشتعلة حتى أخذ الجيش الأميركي يشعر بالحرج أمام متفرجين كثر يتمنون هزيمة أميركا في العراق إنقاذا لأنفسهم مما قد يأتي من الهيمنة الأميركية.
2- لم تحاول أميركا إقامة صداقات مع شعوب الأرض، وإنما عملت على الإخضاع والتأثير في ثقافاتها لصالح الثقافة الأميركية التي لا تتمتع بعمق تاريخي.
ثبت أمام العديد من الشعوب أن الولايات المتحدة ليست دولة صديقة، أو مؤمنة بالصداقة، وإنما دولة استعمارية تعمل على إخضاع الشعوب وليس احترامها.
وواضح من خلال استطلاعات الرأي -على الساحة الدولية- أن أميركا لا تحظى بمحبة الشعوب، وبدل أن تقيم العدالة ذهبت إلى أرجاء العالم تبحث عن الكراهية.
3- لدى أميركا مشكلة في أنها ترى في المال أداة أساسية لتطويع الآخرين، وطالما استعملت المال لشراء ذمم الحكام، واستقطاب تأييد الشعوب.
“
ظن عدد من المفكرين الأميركيين أن سيادة أميركا على العالم هي نهاية التاريخ. ظن الفيلسوف الألماني هيغل أن هناك نهاية للتاريخ، وكذلك فعل كارل ماركس، ومجرى التاريخ لم يؤيد أحدا منهما
“
كل الشعوب تقدر المساعدات التي يمكن أن يتم تقديمها من هذه الدولة أو تلك، لكنها تنكفئ عندما ترى أن هذه المساعدات تنطوي على أهداف سياسية تصب لصالح الدولة التي تقدم المساعدات، لم تحسب الولايات المتحدة ردود الفعل السلبية تجاه مساعداتها.
4- ظن عدد من المفكرين الأميركيين أن سيادة أميركا على العالم هي نهاية التاريخ.
ظن الفيلسوف الألماني هيغل أن هناك نهاية للتاريخ، وكذلك فعل كارل ماركس، ومجرى التاريخ لم يؤيد أحدا منهما.
رأى فوكوياما مثلا أن التاريخ سينتهي عند الرأسمالية الليبرالية الحديثة، وكذلك فعل أميركيون آخرون، وعكست آراؤهم وسائل الإعلام التي لم تضع أي كوابح على مثل هذا الطرح، التاريخ لا يتوقف ولن يتوقف، وحركة التاريخ ستبقى مستمرة ما دامت هناك حركة حياة.
5- تمادت الولايات المتحدة في توسيع آفاق الرفاه لشعبها، ووجدت في النهاية ما لا يرضيها، ولا يدعم مكانتها على المستوى العالمي، لقد وقعت في أزمة مالية كبيرة، وما زالت تعانيها حتى الآن، ماليا واقتصاديا.
ظهور قوى منافسة
التاريخ لم يتوقف عند انهيار الاتحاد السوفياتي، وما هي إلا عدة سنوات حتى بدأت تظهر قوى جديدة على الساحة الدولية، منها من تتحدى الإدارة الأميركية، ومنها من أخذت تفرض نفسها على الساحة الدولية، ومن هذه القوى:
1- ظهرت الصين كقوة اقتصادية صاعدة بتسارع قوي، وهي مصنفة الآن كثاني أقوى اقتصاد على المستوى العالمي.
مع هذا النهوض الاقتصادي الذي قد يحول الصين إلى الدولة الأقوى اقتصاديا، توسعت نشاطاتها على المستوى العالمي، خاصة في أفريقيا، وتصاعدت قدراتها العسكرية والتقنية.
تقيم الصين الآن علاقات جيدة مع العديد من دول العالم، وعلى أسس أكثر ذكاء من أسس الأميركيين، يذهب الصينيون إلى دول العالم طالبين الصداقة، لا فارضين الإرادة.
2- بدأت روسيا بتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ومواردها المالية تحسنت كثيرا عما كانت عليه الأمور عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، ووضعت إستراتيجية شاملة للتأثير في الأسواق العالمية الخاصة بالغاز والنفط، وأقامت شبكة من العلاقات الاقتصادية مع دول أواسط آسيا، وطورت قدراتها التسليحية، خاصة في المجال النووي، وأصبحت الآن مهيبة الجانب، وبعد أن كانت روسيا تتجنب المواجهات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة أخذت تسترخي وتستعمل حق النقض في مجلس الأمن.
“
تقيم الصين الآن علاقات جيدة مع العديد من دول العالم، وعلى أسس أكثر ذكاء من أسس الأميركيين. يذهب الصينيون إلى دول العالم طالبين الصداقة لا فارضين الإرادة
“
3- هناك قوى اقتصادية كبيرة تتنامى، وسيكون لها تأثير كبير في الساحة الدولية، وعلى رأسها الهند والبرازيل، واللتان تشكلان مع روسيا والصين وجنوب أفريقيا مجموعة البريكس التي يمكن أن يكون لها مستقبل اقتصادي واعد.
في الوقت الذي تغرق فيه أميركا بالديون والأزمات الاقتصادية تظهر دول أخرى تحقق نموا اقتصاديا كبيرا، ويتخطى معدلات النمو في الدول الغربية.
4- تشكل إيران قوة إقليمية كبيرة، ومن المتوقع أن تكون قادرة على قيادة العالم الإسلامي خلال السنوات العشر القادمة.
قفزت إيران خطوات واسعة في المجالين العلمي والتقني، وطورت قدرات دفاعية متنوعة تجعل الدول الغربية مترددة في الاعتداء عليها أو تحديها بصورة صلفة، وبعد أن كانت المنطقة العربية الإسلامية مسرحا لأميركا وحليفتها إسرائيل استطاعت إيران أن تكسر هذا الأمر، وتجعل من المنطقة منطقة منافسة وتحدٍ.
سوريا والنووي الإيراني
أصيبت الولايات المتحدة بنكستين كبيرتين في أفغانستان والعراق، وأثرتا في وضعيها الداخلي والخارجي.
على المستوى الداخلي، يبدو الشعب الأميركي مثقلا بالخسران العسكري وبالنفقات المالية الهائلة التي ترتبت على الحربين، وبات الأميركي يتساءل عن جدوى الحربين، وعن جدوى التضحية بأمريكيين من أجل أهداف غير واضحة المعالم، أصيب الأميركي بدمه وماله، وتقلصت بذلك رغبته في خوض مغامرات جديدة قد لا تكون مجدية.
أما على المستوى الخارجي فقد أدت حروب أميركا إلى توسيع رقعة الفئات المسلحة التي تقاتلها وتقاتل الدول الغربية، والإرهاب الذي قالت إنها تحاربه يزداد قوة وانتشارا.
هذا فضلا عن أن مكانتها العالمية كقوة عسكرية تفوق التحدي قد تقلصت، وأصبحت لدى الدول الأخرى شكوك حول الاعتماد على القوة الأميركية لحسم صراعات عالمية أو إقليمية.
برز الوهن الأميركي في قضيتي سوريا وإيران. على المستوى السوري، وقفت أميركا عاجزة حائرة وغير قادرة على اتخاذ قرارات.
صحيح أن أميركا لم تجد بديلا لنظام الأسد، لكنها أيضا عجزت عن أن تكون منافسا حادا لدول أخرى تدعم النظام السوري.
واجهت أميركا النقض الصيني والروسي في مجلس الأمن، وبقيت الدول الغربية مشلولة وغير قادرة على العمل وفق رغبات حلفائها العرب، وجاءت خيبتها كبيرة عندما قررت أميركا حشد أساطيلها قبالة الساحل السوري، ومن ثم سحبها والكف عن التهديد.
بالتأكيد قامت أميركا بالكثير من الحسابات حول المسألة السورية، وربما لو لم يكن هناك إيران وحزب الله لما ترددت في ضرب سوريا عسكريا.
كان من الممكن أن تغامر أميركا بحرب تشتعل في المنطقة ككل، وفي هذا ما ينبئ بتورطها في حرب قد لا تكون رابحة، وتنعكس سلبا على الداخل الأميركي، ولهذا هرب الرئيس الأميركي من مسؤوليته في اتخاذ القرار ليطلب معونة الكونغرس وليتغطى به في حال الفشل، ولم تخرج أميركا من مأزقها إلا بمنحة روسية.
هذه روسيا التي ظنت أميركا أنها ستطوعها قد قدمت حبل الخلاص للرئيس الأميركي عندما طلبت مقايضة الكيميائي السوري بالعزوف عن الضربة العسكرية. تلقفت أميركا المبادرة بسرعة، وأوقفت كل إجراءاتها باتجاه ضربة عسكرية لسوريا.
أما بخصوص إيران فقد قبلت أميركا ومعها الشركاء الغربيون ما كانت رفضته عبر السنين.
كانت أميركا تصر على تفكيك المنشآت النووية الإيرانية، وعلى وقف تخصيب اليورانيوم، وعدم زيادة أجهزة الطرد المركزي، لكنها في النهاية تراجعت عن مطالبها واكتفت بسقف محدود لتخصيب اليورانيوم.
“
داخليا يبدو الشعب الأميركي مثقلا بالخسران العسكري وبالنفقات المالية الهائلة المترتبة على الحروب، وخارجيا أدت تلك الحروب لتوسيع رقعة الفئات المسلحة التي تقاتلها وتقاتل الدول الغربية، والإرهاب الذي قالت إنها تحاربه يزداد قوة وانتشارا
” صحيح أن إيران لم تجنِ الكثير في مجال تخفيف العقوبات، لكنها كسبت كثيرا في مجال الاستمرار في العمل النووي.
وواضح أن أميركا لم تقدم على اتفاق مع إيران عبثا، وإنما لا بد أن حساباتها أشارت إلى أن الحل الدبلوماسي أفضل من الاستمرار في التهديد والوعيد، حتى أن أميركا لم تعطِ الكثير من الاحترام لحلفائها العرب والإسرائيليين عندما قررت أن تسير في الحل السلمي مع إيران.
المستقبل
قد تزداد قوة أميركا الاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية في السنوات القادمة، لكن هذه الزيادة ستكون بتسارع أقل من تسارع الزيادة لدى دول أخرى، مثل الصين وروسيا وإيران.
أميركا متطورة جدا علميا وتقنيا، وغالبا ما يكون تسارع اللاحقين أكبر من تسارع الواصلين، أي أن تسارع الصين في النمو الاقتصادي سيكون أكبر من تسارع أميركا، لأن الصين ما زالت تستغل الكثير من الموارد غير المستغلة، وكذلك الأمر بالنسبة للهند وروسيا والبرازيل وغيرها.
المعنى أن قوة الدول المنافسة لأميركا سترتفع بنسب أعلى من ارتفاع القوة الأميركية، ما يعني أن موقع أميركا على الساحة الدولية سيستمر بالتقلص.
أميركا لن تكون ضعيفة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لكن سطوتها على العالم ستتراجع رويدا رويدا، وستتبخر فكرة العولمة الأميركية تدريجيا.
ذلك الحلم الأميركي بجعل العالم أميركيا سيتبدد إلى حد كبير، وستظهر عدة أقطاب عالمية وإقليمية تأخذ مكانها في التأثير على السياسة الدولية، وهذا يعني أن مكانة إسرائيل وبعض الدول العربية التابعة لأميركا ستتأثر سلبا.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.