لدينا مثل شعبي عربي يقول “الفاضي يعمل قاضي” . لكن في أمريكا تحول المثل إلى “الفاضي يعمل رسام” . فقد تكون من أشد المفارقات التي تسقط على مدارك العصر السياسي الحديث، أن يسمع أو يقرأ خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن تحوّل إلى رسام بعد أن غادر البيت الأبيض، وأنه سيعرض أعماله “الفنية” التي تضم 20 لوحة في معرض في إبريل/ نيسان، ذلك أن بوش بعد انتهاء ولايتين رئاسيتين حافلتين باحتلال أفغانستان والعراق، و”مزيّنتين” بملحمتي أبو غريب وغونتانامو ودعم “إسرائيل”، اتجه إلى مغازلة الطبيعة بالفرشاة والألوان، متأثراً بكتاب “الرسم للتسلية” الذي صدر في 1948 لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل .
هكذا إذن، يجود التاريخ برموز يتجوّلون بين المعسكرات والكتابة والرسم والسياسة . بعضهم حاول أن يتلطى بالفن رسماً أو شعراً أو موسيقى، لإخفاء نزوع جرائمي خط لوحاته بدماء آلاف الضحايا .
إيهود باراك مثلاً يجيد العزف على البيانو، لكنّه أكثر الجنرالات الصهاينة حصولاً على الأوسمة ليس بسبب “إبداعه” الموسيقي، بل بسبب “إبداعه” في قتل الفلسطينيين و”تفنّنه” في قنص رؤوس أطفالهم، وقد ختم سفر إبداعاته بفصل “السور الواقي” الذي سطّر فيها “أسطع” اللوحات الممهورة بدماء المجازر في مخيم جنين وبلدة نابلس القديمة ومدينة رام الله .
الأمثلة كثيرة وتتجاوز محدودية الصفحات، على الطلاء الفني الذي يعجز عن إخفاء قبح السياسة لدى بعض أصحابها، أو حتى أدعياء الفن والأدب الذين يبررون القتل العشوائي ذبحاً وسحلاً وتنكيلاً، تحت عناوين الديمقراطية ومناهضة الدكتاتورية . الزعيم النازي أدولف هتلر الموصوف بالصرامة والجدية والعسكرتارية كان، إلى جانب انشغاله بالسياسة، رسّاماً ترك العديد من اللوحات التي وصفت بالجميلة، مابين عامي (1908 1913) عندما كان في فيينا، لكن لوحاته المزيّنة بالألوان الزاهية، تناقض الرفض المتجذّر الذي كان يستوطنه تجاه التنوع العرقي والسياسي والثقافي والحضاري، فاستحق رمزية عنصرية طغت على ما سواها من ماكياجات الفن التي فشلت في إخفاء ما تحتها .
تشرشل الذي تأثّر به بوش لم يكن في شكله ومضمونه يوحي سوى بنزعة سياسية متجهّمة، لدرجة أن القنبلة الأمريكية التي ألقيت على هيروشيما اليابانية في الحرب العالمية الثانية، أطلق عليها لقب “تشرشل” . وفي فترة الحرب العالمية الثانية وفي خضم الحرب التي كانت بلاده تخوضها مع حلفائها ضد محور ألمانيا النازية وإيطاليا واليابان، كان يقضي بعض الوقت في رسم اللوحات . وحين سُئل عن كيفية إيجاد وقت للرسم في ظل مشاغله السياسية الكثيرة وانشغاله بإدارة الحرب ومتابعة أمور الجيش البريطاني في كل الجبهات، قال: هناك وقت لكل ما تريد .
ولم تكن المفارقة بين مساحة شاسعة من السياسة وهامش فني ضيق، بل ذهبت أكثر من ذلك . ففي الوقت الذي كان تشرشل يوقّع على أمر بالبدء بإنتاج القنبلة الهيدروجينية كان يفوز بجائزة نوبل للآداب سنة 1954 تقديراً لكتاباته الأدبية، وقد تكون جائزة مستحقة، على الأقل إذا علمنا أن سفاح صبرا وشاتيلا مناحيم بيغن حصل على جائزة نوبل ل “السلام” .
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.