What Comes After Kerry Will Be Different

<--

في العادة الدارجة لدى المثقفين عموماً، يتجنّب المبدعون والفنانون، لاسيما الرواة الكبار، كشف النقاب عن لباب نتاجاتهم الأدبية، أو أشرطتهم السينمائية، عندما يُستضافون في أمسية أو سهرة تلفزيونية للحديث عن أعمالهم وشيكة الصدور؛ وذلك تجنباً لما يسمى “حرق” العمل المحتفى به. وهو أمر يتفهمه المتلقون تماماً، ويزيدهم حفاوة في استقبال الإصدار المنتظر، ويحفزهم على إطراء صاحبه، خصوصاً إذا كان الضيف من المشاهير.

غير أنه في عالم السياسة والدبلوماسية، لا تجري الأمور على هذا النحو، لاسيما إذا ما تعلق الأمر بجهود وساطة تجري حكماً وراء أبواب مغلقة، ولا يتسرب منها إلى قنوات الإعلام إلا ما ترغب فيه الأطراف؛ جسّاً لردود الأفعال، وسبراً لغور اتجاهات الرأي العام، وهو ما اصطلح على تسميته بـ”بالون الاختبار”، الذي يمكن تنفيسه بإبرة أول رد غاضب من هنا أو هناك، ومن ثم تعديل المواقف غير المكتملة بعد، واستدراك مخاطر الاصطدام بتوقعات المخاطبين بجهود الوسطاء والمتفاوضين.

وبتخصيص أكثر، فقد كانت مهمة الوسيط الأميركي المثابر، وزير الخارجية جون كيري، تماثل عرضاً مسرحياً مملاً، كانت نهايته الدرامية معروفة من قبل، بل ومكتوبة في مقدمة النص ومعلنة على رؤوس الأشهاد. ومع ذلك، فقد أملت الضرورات والملاءمات السياسية على جميع الأطراف شراء التذكرة بثمن باهظ، والدخول إلى قاعة مسرح خالٍ من الرواد؛ إما لمجاملة المُخرج، وإما لتزجية الوقت وتقطيعه كيفما اتفق، فيما راح المتفرّجون ينظرون كلٌّ إلى ساعته طوال مدة العرض، مستعجلين انقضاء الوقت المقرر لإنزال الستارة، وإطفاء الأنوار.

لذلك، لم تكن هذه النتيجة المتوقعة سلفاً مفاجئة لأحد. وبالتالي، لم يُصب أحد بالصدمة، ولا حتى بالدهشة من مثل هذا المآل الذي سبق لنا أن وقفنا عليه من قبل، على مدى نحو عقدين مريرين، تعاقب في غضونهما عشرات الوسطاء الأميركيين، ذهاباً وإياباً، من دون أن يتركوا وراءهم غير حصيلة كبيرة من الفشل المتكرر، والإخفاق المديد. وهي سمة خاصة باتت ملازمة للدبلوماسية الأميركية في السنوات الأخيرة، على نحو ما تقصه علينا بالصوت والصورة، مشاهد الإخفاقات الأميركية المدوية، والمتواصلة أيضاً، في أربع جهات الأرض.

مع ذلك كله، فإنه من المحظور بعد تنفس الصُعداء، وإبداء مظاهر الابتهاج بنهاية ما بدا للكثيرين كأنه كابوس ثقيل؛ ومن ثم فرك اليدين فرحا بسقوط خطة كيري التي لم ترق يوماً إلى مستوى خطة، ولم يجر فيها وضع بند واحد على الورق الصقيل. فكل البدائل التي كانت صعبة، سوف تصبح أكثر صعوبة الآن؛ وسائر الخيارات المتاحة ستغدو، على قلّتها، أقل مما كانت عليه قبلاً، وأشد كلفة من أي وقت مضى، لاسيما أن الخبرات المتواضعة تدلنا على أنه كلما انغلق باب على الفلسطينيين، انفتح على مصراعيه باب موازٍ لإسرائيل، تدلف منه بكامل عجرفتها لمواصلة فعلها الآثم القديم.

إذ لا حاجة للتذكير بجسامة الأوزان الإضافية التي ستُلقى بعد اليوم على كواهل منهكة أساساً، إن لم نقل إنها مثقلة بأحمال ثقال، تراكمت مع مرور الوقت؛ حيث لم يعد هناك متسع للمزيد منها على أكتاف نحال، هدّها طول الترقب، وأعياها انتظار تحقيق المستحيلات. الأمر الذي يتطلب الحذر بشدة من نشوء حالة “لا فشل ولا نجاح”، توازي حالة اللاحرب واللاسلام، وتتماهى مع وضعية مفاوضات من أجل المفاوضات؛ ما إن تُختتم جولة حتى تبدأ أخرى، في حلقة لا نهاية لها من المراوغات.

ختاماً، أحسب أنه آن أوان إجراء المراجعات العميقة، بعيداً عن اليأس والتهور، والتحوط إزاء ما يلوح في الأفق القريب من تبعات وعواقب جسيمة، لن يتورع عن اقترافها احتلال مدجج بالغطرسة الحربية والعنصرية الكريهة، ومن ثم العمل على كسر قواعد اللعبة القديمة بين الذئب والحمل، والخروج من الشرنقة، بدأب دودة القز؛ أي كسر شرط الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية المستقلة عبر المفاوضات، والتحول إلى رحابة البناء التدريجي الرصين في فضاء أوسع، بمراكمة الحقائق الكيانية والحقوقية والسيادية والاعترافات، حجراً فوق حجر، ومدماكاً فوق آخر، على أرضية الأمم المتحدة، بمنظماتها النوعية وعديد وكالاتها المتخصصة.

About this publication