على عكس الكثير من التحليلات، لم ينشغل الروس بالأزمة الأوكرانية ليقلصوا من اهتمامهم بالأزمة السورية . ولم تدفع الأزمة الأوكرانية الروس والأمريكيين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، سعياً لاتفاق على تقاسم النفوذ في المنطقتين . وعلى عكس التحليلات الرائجة فلم يحقق الرئيس بوتين انتصاراً في أوكرانيا، حيث هزم الأمريكيين . فهؤلاء يلعبون بعيداً عن ديارهم وفي أرض ليست لهم في الأصل، وبالتالي فإنهم خسروا ما لم يكن لهم ولم يربحوا أوكرانيا، وهي أصلاً هدية ملغومة، نظراً للأزمة الاقتصادية التي تعانيها والمساعدات الضخمة التي تحتاج إليها والتي لا يملك الأمريكيون والأوروبيون أن يقدموها في الظروف الراهنة . من جهته حقق بوتين انتصاراً معنوياً ورمزياً، لكنه ربح ما كان في حوزته في الأصل وهو ربح تترتب عليه تكاليف اقتصادية ومالية كان في غنى عنها . الشعب الأوكراني هو الخاسر الأكبر من صراع النفوذ بين الجبابرة على أرضه .
ليس هناك من حرب باردة بين موسكو وواشنطن، كما روج محللون كثيرون نتيجة الأزمتين السورية
والأوكرانية .
هناك تنافس في ملفات دولية وتعاون في ملفات أخرى، بل إن هناك في بعض الملفات تنافساً وتعاوناً في الآن نفسه . في سوريا مثلاً هناك اتفاق كامل حول مكافحة الإرهاب ونزع أسلحة النظام السوري الكيميائية . وتبدو موسكو منخرطة إلى أذنيها دعماً لنظام بشار الأسد الذي تجد فيه ضمانة لمستقبل مصالحها، في حين أن الموقف الأمريكي يشوبه الكثير من الغموض وتحيط به الكثير من الأسئلة .
وعلى الأرجح أن واشنطن ليست في عجلة من أمرها لإيقاف نزاع مسلح يتقاتل فيه أعداؤها جميعاً وبأكثر الأشكال عنفاً ودموية . ما يهمها هو ألا ينتشر الصراع السوري في دول الجوار فتفلت الأمور من عقالها عندئذ، ما يعرض المصالح الأمريكية، وغيرها، لمخاطر حقيق
كذلك يخطىء المحللون الذين يعتقدون أن استراتيجية أوباما القاضية بالاستدارة نحو آسيا-الباسيفيك تجعله يدير ظهره لمنطقة الشرق الأوسط، لاسيما بعد الاكتشافات النفطية والغازية التي ستجعل الولايات المتحدة في غنى عن الطاقة المستوردة من الشرق الأوسط . فالأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة ليست في نفطها وغازها فقط والتي لا تستورد منه الولايات المتحدة أكثر من 51 في المئة من حاجتها في الوقت الراهن .
جل ما هنالك أنه بعد فشل السياسات الهجومية الأمريكية في عهد المحافظين الجدد وجورج بوش الابن، لاسيما في العراق وأفغانستان، وعد الرئيس أوباما بالقطيعة معها والانسحاب من هذين البلدين وعدم خوض حروب جديدة . وابتدع مفهوم “القيادة من الخلف” الذي يتيح إشراك الطائرات الاستطلاعية والحربية من دون طيار في عمليات هجومية . وهذا المبدأ طبقه أوباما، ولا يزال، في باكستان وأفغانستان ضد طالبان، كما في ليبيا، دعماً للقوات الفرنسية والبريطانية لإسقاط نظام القذافي، وفي اليمن ضد القاعدة . ثم لا ننسى أن الأزمة المالية والعلاقات المتوترة بين الرئيس والكونغرس في واشنطن تدفع في اتجاه تفادي خوض المغامرات الخارجية .
من جهته بوتين فإنه يحاول استغلال لحظة الضعف الأمريكية لتكريس نفوذه في الساحة الخارجية المباشرة لروسيا وليس البعيدة، وذلك لأن مواردها لم تعد تسمح لها بالعودة إلى موقع القوة الدولية العظمى، وهو موقع أنهك الاتحاد السوفييتي وشعوبه بدل أن يضعها في طريق الرخاء والازدهار . ويعمل بوتين على توثيق تحالفاته في داخل “البريكس”، ومع الصين (الاتفاق الغازي الأخير خلال زيارته التاريخية للصين)، بغية الدفع في اتجاه نظام دولي متعدد القطبية . وهو لا ينفك يذكّر الأمريكيين بأن روسيا اعتنقت الاقتصاد الحر والرأسمالية وباتت عضواً في المنظمة العالمية للتجارة، وبالتالي فلا خلاف أيديولوجياً يفرقها عن
الولايات المتحدة، كما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة . وهو يعتبر بأنه يقدم خدمة للأمريكيين، والإسرائيليين أيضاً، في الملف النووي الإيراني عبر المفاوضات التي يساعد في إنجاحها منعاً لطهران من امتلاك السلاح النووي، وفي الملفين الكيميائي والحرب على الإرهاب في سوريا . فضلاً عن أنه في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يتدخل، بمعنى أنه لا يمارس ضغوطاً على الدولة العبرية لتقديم تنازلات في المفاوضات مع الفلسطينيين، بل إن تعاونه مع “هذا البلد الذي يتكلم الروسية”، كما يصفه وصل إلى حدود بعيدة في المجالات الفضائية والإلكترونية والتجارية .
في كل الأحوال بات مستقبل الأزمة السورية مرتبطاً بصفقة روسية – أمريكية، ونظراً لمركزية بلاد الشام وأهميتها الجيوبوليتيكية يمكن القول إن مستقبل الشرق الأوسط برمته بات رهناً لمثل هذه الصفقة الكبرى والشاملة التي تزداد الحاحاً بفعل التطورات الأخيرة في العراق المتمثلة بالتمدد الداعشي، وبالعجز عن تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات التشريعية.
Leave a Reply
You must be logged in to post a comment.